يفترض كاتب هذا المقال أن القارئ الكريم يعرف النفس ( تدينيا )، من حيث ( يسلم ) بقبول ورود لفظة النفس كما هي في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، دون أن يسعى لمعرفة ماهيتها اصطلاحيا فلسفيا . أليس يسلم بما جاء في القرآن عنها ، على سبيل المثال قوله تعالى ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ) ، ويسلم بما جاء في الأحاديث النبوية عنها ، على سبيل المثال قوله عليه الصلاة والسلام ( أعدى عدوّك ، نفسك التي بين جنبيك ) ؟! نعم ، هو يمرر هذه اللفظة على عقله ( كما هي ) ، فإذا سألته : ما النفس التي تدعي معرفتها ؟! لن يجيب ، و قد يجيب : هي من المعلوم في الوجود بالضرورة .
وقبل بيان ( فلسفة إحياء النفس في الإسلام ) نقول : إذا كان وجود كلمة ( فلسفة ) في العنوان لا يريحك ، فضع مكانها كلمة ( حكمة ) وأرح نفسك . فما الفلسفة إلا محبة حكمة أحببت أن تعلنها للناس فأعلنتها، فصار حبك لها وإعلانها ، لا ينفصل عنها ، فأُجملت الحكمة ومحبتها في كلمة فلسفة . وهكذا كل أمر علمي حياتي يُلحق بالفلسفة.
بداية ، نقول : لا تتضح فلسفة إحياء النفس إلا في ضوء إماتتها أو بالأصح قتلها ، كما يقال : ( بضدها تتمايز الأشياء ) . وإذا كان قتل النفس أو إزهاقها وإنهاء وجودها في الحياة مما لا خلاف على معرفة مقصوده ومعناه ، فإن إحياءها يحتاج إلى توضيح بالإجابة على سؤال مفاده : هل هو إحياء وجود عن موت وعدم ، أم هو إحياء حدود وارتقاء قيم ؟! هل هو إبقاء أم إحياء ؟!هل هو إحياء مادي عن عدم حياة ، أم هو إحياء روحي في وجود حياة ؟! هل هو مجرد إحياء ، أم هو إحياء على حياة ؟!
وإذا كان الأمر تنظيريا فلسفيا هنا لن يخلو من تفعيل دليل عقلي ، فإن الأمر عقديا كلاميا لا يخلو من ذكر دليل نقلي ، بمعنى أننا سندور هنا في فلك معاني آية قرآنية ذكرت أمرين ضدين للنفس ( القتل والإحياء ) ، بصدد إثبات ( قدرة الفاعلية الإنسانية ) على ذلك . فالإنسان يقدر على أن يقتل النفس، ويقدر أيضا على إحيائها، وذلك بفعل مستقل، وباختيار حر . وقتل النفس أمر مُنكر معروف ، ويبقى إحياؤها عمل (كل المعروف)
وأما الآية القرآنية ، فهي قوله تعالى ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ سورة المائدة : من الآية 22 . والشاهد في الآية ، قوله تعالى (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) . وقد ذكر (الطبري) أقوالا متعددة للمفسرين القدامى في معنى الإحياء للنفس كما يلي : 1- من شدَّ على عضُد نبيّ أو إمام عدل، فكأنما أحيا الناس جميعًا 2- من ترك قتل نفس واحدة حرمتها مَخَافتي، واستحياها أن يقتلها، فهو مثل استحياء الناس جميعًا ، ومن لم يقتل أحدًا، فكأنما أحيى الناس جميعًا 3 – من أحياها : استنقذها من هلكةٍ فكأنما أحيى الناس جميعًا 4 – من أحياها : من سلم من قتلها، و من كفّ عن قتلها فقد أحياها 5- من أحياها : من سلم من ظُلمها 6- من أحياها : من عفا عمن وجب له القِصَاص منه فلم يقتله 7- من أنجاها من غَرَق أو حَرَقٍ أو هَدَمٍ أو حر أو برد شديد . ثم قال الطبري (إن معنى الإحياء للنفس : ( سلامة جميع النفوس من القتل ، لأنه من لم يتقدم على قتل نفس واحدة ، فقد سلم منه جميع النفوس ) . انظر : جامع البيان ، تفسير سورة المائدة آية 32
وقد أوضح (القرطبي) المجاز في هذا الإحياء حيث قال (( وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ أَحْياها) تَجَوُّزٌ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّرْكِ وَالْإِنْقَاذِ مِنْ هَلَكَةٍ، وَإِلَّا فَالْإِحْيَاءُ حَقِيقَةً – الَّذِي هُوَ الِاخْتِرَاع ُ- إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تعالى. وإنما هذا الإحياء بمنزلة قول نمروذ اللعين : “أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ” . فَسَمَّى التَّرْكَ إِحْيَاءً )). انظر: الجامع لأحكام القرآن، تفسير المائدة آية 32
والناظر المعاصر – بعين الاعتبار والنقد – في تفسيرات القدامى لمعنى إحياء النفس في الآية يجب أن يشكرهم عليها ، لكنه لا يجب أن يوقف عقله عندها أو عليها . وقد يجد أنها تنبني على مفهوم ( سلبي جسدي مادي استبقائي ) ، يركز فقط على مجرد ترك النفس دون قتلها ، أو المحافظة عليها ، واستنقاذها حين يمكن أن تتعرض لهلاكها . فضلا عن أن هذه التفسيرات قد دارت في فلك مطلوب الجسد من المحافظة عليه لئلا يهلك ، ولم تنتقل إلى مطلوب الروح لئلا تموت فيه ، وفي ذلك حق الإحياء. فكم من أرواح ماتت في أجسادها وهي على وجه الحياة؛ لأنها حرمت من هذا الإحياء في الحياة
ليس إحياء النفس مجرد إبقائها بالوجود ، لكن إحياءها فعل ارتقاء بها في الوجود. إن الإحياء للنفس فلسفيا إسلاميا مفهوم ( إيجابي روحي ارتقائي ) ، يمكن أن يتمثل في جانبين: الجانب الأول : وجداني بجبر خواطر النفوس ، وترميم كسور القلوب . والجانب الثاني : عقلاني بتعويد النفوس على قبول المعقول والاعراض عن اللامعقول ، بل عقلنتها ، ومنهجتها ، وإعلاء تعليمها ، هو باختصار إحياء ارتقائها . فإذا كان عدم القتل إبقاء جسد النفس في الوجود ، فإن الإحياء ارتقاء عقل النفس في الوجود . ولو كان مقصود الإحياء مجرد إبقاء النفس، لما كان هناك فعالية للإنسان . لكن الإحياء فعالية راقية تسمو بالنفس فوق مستوى إبقاء الجسد والمحافظة عليه من الهلكة أو القتل . وأداء هذا الإحياء للنفس واجب تديني وقيمي على (المخلصين) من العلماء والمفكرين ؛ لأن هذا الإحياء هو روح الحياة ، وحب الحياة ، وعيش ذاك الحب للنفس في الحياة