لم تكن “العمَّة مَحضيَة” هى آخر أصوات البسطاء التى جاءت من الجنوب.. محمولة على ظهر النهر الخالد.. الذى كان ولا يزال يتدفق من الجنوب محملاً بالخير والحب والوجع!
لقد عاشت قريتنا البسيطة على ما يجود به النهر من ماء وطمى وأسماك.. وعلى ما جاد به النهر تحددت أنماط معيشتهم.. فعملوا بالنهار فى مهنة الزراعة، وبالليل احترفوا مهنة الصيد.. وكانوا لا يطرقون أبوابه سوى فى الليل، يفردون شباكهم فى باطنه.. كأنهم يُجرُون فى جسده عملية جراحية ماهرة.. وكأنهم على يقين بأن النيل كائن ٌبشرى.. يشعر ويفرح ويتألم، ويصحو وينام.. ولكن أحشاءه دائما واعية.. وكأن علاقتهم بالنيل علاقة معشوقَين.. لا يشعرون بسحر اللقاء سوى فى المساء!
عشنا جميعا على أحدِ شاطئيهِ.. إلا عم “حسين النُص” فقد عاش ممتطياً ظهره حتى الموت.. فى جزيرة لا تتجاوز مساحتها بضع قراريط من الأرض، تسمى “بادية ” تحيطها ماء النهر من كافة نواحيها.. ظهرت بعد بناء السد العالى.. حين انحسرَ ماءُ النهرِ وقلَ طميُه.. وبدأت تظهر فى باطن النهر جُزرٌ صغيرة وعلى جوانبه.. كانت تلك الجزر بمثابة ذريعة للاقتِتال بين العائلات، فبعد أن كانوا يُسَمُونَها جزيرة طرح النهر، صاروا يُسمُونها جزيرة “طرح الدم” أو جزيرة “المسحور”!
اقرأ أيضا: عشة العمة محضية
لم تكن حِكاية عَم حسين النص عادية كحكايا الجزيرة التى كان نسكُنُها.. فقد كانت حياته مليئة بالمواقف التى عادة ما كان السِحرُ والجنُ أطرافاً أساسيبن فيها.. وكانت حكايتُه مع “المَسحُور” أشهر حكايانا المتداولة فى الصِغر.. حكاية ذلك الرجل القصير الذى اصطحبَ المَسحُور أُختَهُ ثم أبيه فى رحلة إلى قاع النهر.. ولم يعودا منها إلا جثة هامدة!
لقد أفقد المَسحُورُ عم حسين كل شيء.. فلم يُبقِ له من ماضيه سوى نخلتَه اليافعة، وحماره الأزعر.. فبعد أن ماتت أمه وغرق أبوه وأخته، رحل أخوه الأكبر “حسن ” هارباً من مصيره المحتوم، على يد الرجل المَسحُور!
لم تنسَ قريتنا ذلك اليوم الذى عاده فيه الفتى حسين -الذى لم يتجاوز عمره العشرين عاما- من السوق، ليفاجأ باختفاء أبيه.. ذلك الحدث الذى جدد في عم حسين وجيعة اختفاء أخته “سُبَيكَة”.. والجاني فى الحالتين كان واحداً.. هو المَسحُور!
اقرأ أيضا: سياسات الإصلاح فى مصر.. هل نجحت؟!
و”المَسحُورُ ” هو فى طبيعته رجلٌ غَضِبت منه زوجته؛ فأعَدَّت له سحرا، جعله يتحول إلى “كائنٍ مَائِي” لا يمكنه العيش سوى فى قاعِ النهر.. وعادة ما يخرج المسحور فى المساء؛ ليصطاد ضحاياه من البشر.. وكأنه منذ سكن النهر قد قرر الانتقام من بنى البشر.. لم تحدثنا حَكايا النهر عن الطعام الذى يفضله المسحور فى عيشته الثانية.. لكنها أخبرتنا بأنه كان رجلاً طيبا.. حوله جبروتُ امرأةٍ إلى شيطانٍ مُنتقم!
وإذا أرادت زوجته أن تعيده ثانية إلى حياته الأولى.. أولاً كان عليها ألا تجعله يظل فى النهر أكثرمن أربعين ليلة متتالية.. وثانياً عليها أن تحمل إليه زوجاً من الحمام، الأول نيئا والثاني مطبوخا، وتذهب بهما إلى شاطئ النهر.. وتقف فى نفس المكان الذى ألقت فيه السحر.. ثم تنادى عليه مُكنَّى باسم أُمِهِ.. وما إن تراه الزوجة حتى تقدم إليه زوج الحمام.. فإن فضل الفرد المطبوخ على النيئ؛ اصطحبته معها إلى البيت.. أما إذا فضل العكس واختار الفرد النيئ.. فقد علمت الزوجة بأن زوجها قد صار وحشاً، ولا أمل فى عودته إلى سيرته الأولى ثانية!
اقرأ أيضا: البسطاء.. وحكايا النهر!
هرب الجميع من الجزيرة التى يسكنها المسحور، وصارت أجود أراضيهم بورا.. إلا حسين ذلك الفتى الذى اعتقله الحزن على أخته وأبيه بين شواطئ الجزيرة الأربعة.. وأصبح طموحه الوحيد هو الخلاص من المسحور!
وحين كان يُسأل عن امتناعه عن الزواج يجيب: بأنه لن يتزوج إلا إذا حررَ النهرَ من المسحور.. وكان يقول بأنه قدر هذه الجزيرة أو هى قدره.. والمسحور قدر الإثنين!، حسبتُ الخلاص منه سهلا.. حسبته قريبا.. وجعله القدر بعيداً بعد نهاية العمر!
لن أنجب أطفالا للموت.. لن آتى بامرأة تشاركنى الوجع.. المسحور قدرى وحدى. ولن تتخلص الجزيرة من بوارها إلا بالخلاص منه.. فإذا كان المسحور رجل سحرته امرأة.. فأنا رجل سحرته رائحة النهر.. لن أعود الى حياتكم إلا إذا استرد النيل أمانته!
اقرأ أيضا: عم غتاتة!
عاش “عم حسين النُص” فى الجزيرة على هيئةِ مَسحُور لم يقص شعره ولم يحلق ذقنه وحتى لم يقلم أظافره.. يحمل فى يده عصا عَوجَاءٌ من الحديد.. مُدَبَبٌ سِنُهَا.. يتوكأ عليها.. ولم تفارق يده حتى فى لحظات النوم.. التى لم تتكرر كثيراً.. وكأنه عاش عمره فى وضع استعداد دائم لمعركة مرتقبة مع المسحور، ربما لن تحدث!
يقضى ليلَه فى زراعةِ “الجُوبية” فى النهر.. و”الجُوبية” هى صندوق مُفرغُ من السِلك، مصنوعة خِصيصاً لاصطياد الأسماك.. وحين تطل على الجزيرة الشمس بوجهها الصبيح؛ يأتى تاجر الأسماك ليقايضه الأسماك ببعضِ “أرغفة” الخبز الطازج وبعض أقراص “الطعمية” الساخنة.. إذ قرر “عم حسين” آلا يغادر جزيرته إلا برأس المسحور.. ونكمل فى المقال القادم