موجعٌ أن ترى العالمَ الذي وصل بتقدمهِ إلى القمر، يتراجع بخطوات سريعة إلى الوراء.. وموجعٌ أكثر أن ترى كلَ أبوابِ الأرضِ قد أُغلقت دُونك، وليس أمامك باب مفتوح سوى باب السماء!
ربما غَرتنا عُقولُنا حين أوصلتنا إلى كوكبِ المريخِ، وجعلتنا نحلمَ بأن يكون لنا موطناً بديلاً على سطح القمر.. وربما ضاقت بنا الأرض بفعل فسادنا وكوارثنا البيئية المتراكمة؛ فأردت أن تلقننا درساً ربما كان قاسيا إلى حدٍ بعيد، أو أنها ربما أردت أن تلفظنا جميعاً، وتأتي بخلقٍ جديدٍ يتعامل معها باحترام!
وأيٍ كانت المبررات.. وسواء اعترفنا بأنها كارثة طبيعية فاجرة، أو أنها حرب بيولوجية ثالثة ضروس.. فلابد لنا أن نعترف بأن الوجيعة واحدة.. وأننا كُلنا مهزومون.. لا أحد فينا منتصر!
كانت هذه مقدمة لازمةً قبل التزلف إلى متنِ المقال.. الذى أبحثُ فيهِ عن مخرجٍ محتملٍ للكوارثِ المتلاحقةِ التى يتكبدها العالم كل يوم، لا سيما عالمنا الفقير والهش اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا.. والذى قُدِرَ له أن يدخلَ حرباَ سواء كانت مع الطبيعة الغاضبة او حرب كانت بفعلِ مؤامرةٍ بشرية خبيثةٍ لا طرف له فيها.. ولم يكن مستعداً لمواجهتها أو حتى تكبد خسائرها!
لقد أظهرت أزمة فيروس “كورونا المستجد” أن السياسات “النيو ليبرالية” المتبعة منذ عقود، بما تفرضه من تقشف وتحرير للقيود، وخصخصة للقطاعات الحيوية العامة؛ باتت غير قادرة على حمايتنا من هذا الوباء اللاعين!
فإذا كان المحرومون من الرعاية الصحية المجانية والحماية الاجتماعية هم أول ضحايا لهذه الجائحة. فإن الفقراء والعمال في القطاع غير المنظم والمشردون والمهمشون اليومية هم الأكثر حرماناً من أي حماية من الفيروس.. والأكثر تأثراً بتداعياتهِ الاجتماعية والاقتصاديةِ.
وانطلاقاً مما شهدته السنوات الأخيرة من تنامي الوعي بضرورة تطوير “حماية اجتماعية” قوية وشاملة وكونية، حسب ما تضمنه تقرير أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة وأرضيات الحماية الاجتماعية لمنظمة العمل الدولية.
وبالرغم من أن هذه المبادرات لا تزال خجولة وتتطور على استحياء، فإنها مع ذلك تعكس زيادة الوعي بحتمية توفر منظومة فعالة للخدمات الاجتماعية؛ تحمي البشر وتحصنه ضد تقلبات الطبيعة والحياة في جميع أرجاء العالم، ومن ثم فقد حان الوقت لاتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لكي تصبح توصيات المجتمع الدولي ذات الصلة موضع تنفيذ فوري.
وإدراكا لأهمية أن نعملَ جميعاً من أجلِ إقرار سياساتٍ عموميةٍ بديلةٍ تضعُ الإنسانَ والبيئةَ في صلبها. فعلى جميع الشخوص التنمويين والضلعيين فى السياسات الاجتماعية فى بلدانِهم أن يتشبثوا بمطلب إقرار سياسات اجتماعية بديلة للسياسات النيو ليبرالية المتوحشة.
وبناءً عليه وعلى قناعاتي بأننا نخوض حربا لسنا طرفاً فيها، وأننا نجنى ثمارها المدمرة دون حول منا ولا قوة.. وأن معظم البلدان النامية هي بالأساس بلدان “مستدينة” أو مقترضة من دول ومؤسسات اقتصادية دولية عملاقة..
وفى خضم هذه الظروف ربما لا تتمكن هذه الدول من الإيفاء بالتزاماتها نحو سداد الديون أو الفوائد المترتبة عليها. لذا فإننا نؤكد على ضرورةِ تحملِ النظام الدولي لمسئوليته؛ ويعترف بأن هناك “ظروف قهرية” عامة؛ تمنع هذه الدول من القيام بسداد التزاماتها المالية.. وعليه أن يتخذ قرارا حاسماً بـ”إسقاط تلك الديون” أو “نسبة منها” تتناسب مع حجم المخاطر التى تتعرض لها هذه البلدان.
كما عليه أيضاً أن يتحمل مسئوليته فى توفير نظام صحي شامل، يوفر الرعاية الصحية المجانية للجميع، دون تمييز أو استثناء. ولن يتحقق ذلك دون الربط -في هذه السياسات البديلة- بين ضمان الحق في الصحة وتوفير كافة شروط الحماية الاجتماعية الأخرى؛ بما يقودنا إلى التركيز على سبل الوقاية، كالحق في الماء النظيف والتعليم المجاني، والمأكل السليم والمسكن الكريم، والحق في الشغل اللائق والدخل العادل والبيئة السليمة.
وعليه فإننا نطالب بوضع ميثاقا عالمياً للحماية الاجتماعية الكونية، يعترف بأن الحماية الأجتماعية حق أصيل من حقوق الإنسان، استناداً إلى منظومةِ الحقوق والحريات وما يفرضه الدفاع عنهما من تضامنِ عالميٍ واسعِ. ومن ثم فيتحتم على حكومات العالم أن تسارع بإلغاء الديون عن الدول الفقيرة، ووقف الحروب ورفع كل أشكال الحصار والعقوبات، بالإضافة إلى حل النزاعات بطريقة سلمية؛ لما لها من انعكاساتٍ ايجابيةٍ على الحمايةِ الاجتماعيةِ في الدولِ ذاتَ العلاقة .
ليس ذلك فحسب؛ بل عليها أيضاً أن تُسارعَ بإقرار مبدأ نزع السلاح النووي والكيماوي والبيولوجي وإنهاء النزاعات المسلحة، وتحسين ما يسمى بالعملِ المُنتج، والبحوث الأساسية، وبراءات الاختراع على الأدوية واللقاحات، والتنوع البيولوجي، وغزو الفضاء والحصار والعقوبات والموازنات العامة الصديقة لحقوق الإنسان.
ولن تتحقق هذه المطالب دون أن تسعى هذه الحكومات إلى إقرار مبدأ التضامن بين الشعوب في دساتيرها، وإقرار مبدأ حماية المرافق العمومية الاجتماعية خاصة الصحة والتعليم وخدمات الماء والكهرباء والإنترنت والمحروقات من سياسات خصخصة للقطاع العام في الدول.
وتعتبر هذا المقالة بمثابة نداءٍ عاجلٍ إلى النظام الدولي للتكاتف؛ من أجل مواجهة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لفيروس كُرونا.. أتمنى أن يصل صوتي إلى حكومات العالم والمؤسسات الاقتصادية الكبرى على وجه التحديد.. وأن تستجيب تلك الحكومات بعقلٍ لأخر نداء أو محاولة لإنقاذنا جميعاً من ويلات هذه الحرب البيولوجية الخبيثة.