هذا عنوان ديوان شعر عامي للدكتور صلاح هاشم صدر فى (2018) فى 135 صفحة، متضمنا تسعا وثلاثين قصيدة حافلة بالصور الشعرية المحلقة فى فضاء الإبداع الأدبي قائما على ثقافة رفيعة، ومضمون فكرى فلسفي عميق، وصلة بالنفس الإنسانية، ومعايشة لعادات المصريين وتقاليدهم فى إطار أصالتهم الحضارية: خاصة ما يتعلق منها بجنوب مصر، حيث ينتمى الشاعر إلى محافظة سوهاج.
وكاتبنا الدكتور صلاح هاشم أكاديمي وباحث متميز، غزير الإنتاج، وهو إلى جانب عمله أستاذا للتنمية والتخطيط بجامعة الفيوم وخبير تنموي ذائع الصيت محليا ودوليا فضلا عن كونه محللا سياسيا له رؤيته الخاصة عبر مقالاته العديدة وبرامجه المتلفزة .. عمل هذه بجانب الجامعة عضوا فى المجلس الأعلى للجامعات ونقيبا للاجتماعيين ومراقبا فى الأمم المتحدة .. ومستشارا لشئون التنمية والحماية الاجتماعية فى كثير من المؤسسسات الدولية.
وعبر هاشم فى كتبه التى تجاوزت 17 كتابا وفى معظم مقالاته تقريبا وبرامجه التلفزيونية عن انحيازه الواضح للفقراء، وتبنى الدفاع عنهم فى مختلف المحافل الاجتماعية والسياسية ومحليا واقليميا ودوليا، وقد رُشح لكثير من الجوائز الرفيعة. وفازت بعض مشاريعه المهمة بجوائز داخلية وخارجية، وشارك فى وضع خطط استراتيجية مهمة للدولة المصرية . فهو شعلة نشاط لا يفتر، مما يجعله مثارا للفخر، ومثالا للعلم النافع، والطموح الذى لا تحده حدو. ولعل خياله الإبداعي، كما سنراه فى شعره، راجع إلى هذه الشخصية العلمية متعددة الروافد والينابيع والعطاءات التى صقلت شخصية الأدبية. والرجاء المخلص لوفاء مصر لأبنائها يسرى رمزا لعتاب شفيف وأمل فى أن يلقى المواطنون الجادون لخير مصر ما يستحقون، وأن تحل عليهم سعادة العيد، وقد جنوا ثمرات اجتهادهم من خير بلادهم، يقول من قصيدة “وعدّى العيد” :
وعدى العيد.. ولا جيتى.
ولا عايدتى ع الأحباب
ولا طبطتى ع المساكين
وأنا شايفك
أنا شايف.. على كل البيبان يدك
توزع كعك ع المحاسيب
وأنا وولادى مستنى
بقالنا سنين
بنحفر فى الصخور تطرح
هناك بساتين
ونزرع لأجل تتعافى
تعاملينا على أرضك كما المساجين
ولا نقدر نقول يكفى
ولا ينفع نقول كارهين
إنها قضية العدالة الاجتماعية التى يكافح الشاعر العالم من أجلها والإحساس بالمرارة من مكافأة “المحاسيب” وحرمان العاملين الصادقين فى اختلال للموازين، وهو نقد وسعى إلى الإصلاح، لكن دون انتقاص من حبه للوطن.
أما قصيدة “عشق الدراويش” وهى التى اختارها الشاعر عنوانا للديوان فهى معزوفة أخرى، ترمز إلى الحب الصوفى لمصر.
وترتبط بالإهداء فى الديوان حيث يقول هاشم فى إهدائه: ” إلى الذين كانت مصر هى عشقهم الأوحد.. أسكنوها فى دواخِلهم… حتى صاروا مواطنين برتبة دروايش”. إنه المدار الذى يلهم المتصوف حب معشوقه، وهى هنا” مصر”. وهى قصيدة تصوِّر عتاب العاشق الصادق على المعشوق:
أنا معزور .. وعذري إنى حبيتك
وشلتك جوه نن العين
ولما تعبتى خبيتك
أنا معزور .. صادق ولا بكدب
ولو جار الحبيب مرة
أخاف اعتب
وحب مصر فى هذه القصيدة ترتيل صوفى فى عاشق:
أنا معذور عشان عاشق
وعِشقي مًر
ولما اعشق
أبات أرتل ألحانى
فى نص الليل فى عز الطل
أنا درويش .. بلاش تسيئى بيا الظن
…
أنا اللى قلت فى هواكي
هعيش إنسان
أصوم درويش
واعلم فيكي أولادي
ذكا الدرويش ..
وهنا تتجسد صوفية الكاتب حيث يقول
واتمخطر بتوب مرجوع
وأنا العاشق سما ليلك
وأنا الموجوع
وأنا العطشان
وفى إيدك سلسبيل ترياق
بيشربوا منه أغرابك
وأنا المشتاق..
وتيمة المرارة بادية فى الديوان، وكأن الكاتب لا يرى ثمرة إخلاصه لوطنه إلا حصاد الهشيم. وكأنه عشق موجع .. من جانب واحد .. ففى هذه القصيدة يتوحد الكاتب مع معشوقته مصر، توحد المتصوف العاشق بالذات الإلهية، لا يريد إلا رضاها.
أنا الدرويش .. أنا الواقف على بابك
وزنهارك .. وزادك ويا زوادك
بعدي بيكي أحلامك بإبره وِشَاش
ولا قالوا دي مش حلوه ..
أقول حلوه ..
حبيبتي حلوه ما وِحشاش
وتتأصل التقاليد المصرية فى صعيد مصر فى قصيدة “أمى والسبع نوايات”.
وقد كانت أم الشاعر ملاك روحه فى هذا الديوان، انعكاسا لحبها فى حياته. و”النوايات” السبع إحالة إلى ما تثيره فى دورانها بيد الأم من بشارات المستقبل، وتحليل الطابع الإنسانى من خير ومن شر. والاستكشاف النورانى للأم، والاستكانة لطبيعة الحياة وأسرارها وفلسفتها، والغوص على بعض حقائق النفوس بخبرة الأيام وتجارب السنين. وتتناول هذه القصيدة بعض الشخصيات القريبة من محيط الشاعر، وتصورها تصويرا يخرج بها – لحكمتها- من دائرة الخاص إلى دائرة العام. وأم الشاعر منبع النور والخير، والأب كما تصوره الأم فى نواتها الثانية:
أبوك .. راجل طيب.. إنسان
عايش أيامه على قد الحال
تايه فى دروبها ورحال
حمال فى همومه وشيال
ساكت على طول .. وعنيه تتكلم
كيف الراديو .. بكلام ممنوع
عاتب الدنيا وأحوالها .. لكن منصور
ولا يهزم قلبه إلا وجيعتك
جواه إنسان .. لكن مكسور
وهى صورة إنسانية لكل أب حان على ولده، تتراوح دنياه بين الانتصار والانكسار، ولا يفقد إنسانيته على أى حال.
أما النواة الخامسة فهى التى تحمل خوفا وترقبا من الأم على وليدها:
خمسة وخميسة يا وِلدى
فى العين اللي تكره طلة عينك
والصاحب اللى ما يوفيلك
ولا يخلصلك ..
واللى يغشك واللى يخونك
والجزء الخاص بهذه النواة أطول أجزاء القصيدة التى تمثل امتداد النفس الشعرى للدكتور صلاح هاشم، وقدرته على التصوير المركب، حيث تتداخل الصور فى براعة شعرية، وقدرة على إثارة المشاعر، خاصة فى تصوير الأم للصديق الخائن الحاقد على ولدها.
وتتجلى فى هذا المقطع الشخصية الأدبية المتميزة فى تصوير شاعرنا بقوله:
يا بحر هات ضحتك
غنى واغنيلك
شد الزمان دمعتى
وقعت فى منديلك
إنه حب الحياة والطبيعة يداوى جرح خيانة الصديق، ويبحث الشاعر عن ذاته فى “نوايات” أمه، التى تقول فيه:
مسكين .. غلبان
ولسانك أطول من جسمك
لكن إنسان
طيب وصريح
تضحك دايما
والقلب جريح
قلبك أبيض من اللبن الصافى
حضنك دافي
دايما موجود
ثابت نفسك
لكن على وجعك محسود
وفى مناجاة صادقة عميقة لله تتضح صوفية الشاعر وروحانيته فى قصيدة (أنا واحد من المخاليج) أى المخلوقات، هذا الإخلاص لله نابع من إيمان عميق به، وقد صوره الكاتب فى لهجة صعيدية محببة. وتسرى هذه الروح الإيمانية للشاعر فى قصيدة “أنا عبدك” أيضا، حيث يقول:
أنا عبدك .. أنا واحد من المخاليج
ضعيف لكن .. وبتمنى تجويني
عشان عارف أنا عبدك
ما ليش غيرك… جريب وحبيب
…
عشان عارف بإنى ضيف
وليا يوم.. وهرجعلك
عشان أصلا أنا عبدك
أنا واحد من المخاليج
والأسرة ملاك حياة صلاح هاشم الكاتب والشاعر والمفكر والخبير يترنم للأب بقصيدة جميلة، ويتغنى بقصيدة أخرى بعنوان “صباح الخير”، لابنته:
صباح الخير
على العين اللى بتنور لى مشوارى
صباح الخير على الضحكه
اللى قادت شوق علشاني
صباح الخير ..
يا أغلى الناس على قلبى
يا أصدق قلب فى الدنيا
يا أحلى عنين بتتكلم
وأحزن لما تتألم
واشوف جواها عنوانى ومشوارى
وأحلامي بتدارى ورا الرمشين
والأم ماثلة أمام الشاعر، يستأنس بها فى أوقات الشدة، يقول الشاعر من قصيدة “أمى وحبيبتى”:
كل ما اتعب كل ما أمل
طيفك يا عليا يهل
أشعر إنى كأني فى حضنك
ماسك إيدك .. بحضن كفك
كل حنان الدنيا فى قلبك
حضنك يا ما يساع الكل
ويبدو أن الكاتب قد توحدت فى عقليته مشاعر الحب للوطن مع مشاعر الحب الأمم .. وكأن حب الوطن داء قد ابتلى به الكاتب مبكرا .. فلم يستطيع التفريق فى مشاعره بين حبه لأمه وحبه لمصر .. فتراه يقول:
نيلك ياما أوفى صديق
أشرب منه .. لما الدنيا فى وشي تضيق
عارفه يا أمي .. ليه العالم بيغيير مني
علشان شايفك جوه النني
علشان حاسس نيلك يامّا
بيجرى فى دمي
وأبو الهول مربوط فى لسانى
والأهرام عايشه فى وجدانى
عارفه أنا ليه فى الكون وحداني ..
علشان حاسس إنى لوحدي
إنى لوحدي بحبك إنتي
وانتي لوحدك بتحبيني
وان العالم شايفك قمره
وانت ولادك مش حاسين
عارفه أنا ليه دلوقتى حزين ..؟!
ومع الإيمان بالله، يعبر الشاعر عن الإيمان بالوطن، مع تحمله لهموم الدنيا، يقول من قصيد: “أنا الطالب رضا ربى” :
أنا الطالب رضا ربى
فى كل صباح
وشايل همى جوايا
وياما جراح
وضحكة حلوة من بلدى
تخلينى أعيش مجبور
وكذلك تتجلى الوطنية الصادقة لشاعرنا فى قصيدة “مين اللى قال”، حيث يقول:
فيكى لقيت العشق حياة
ولا عاشق فى الكون هيلومنى
صوتى لبلدى طوق نجاة
ولحضنك تانى يرجعنى
ولكن الشاعر الغيور على وطنه يرصد ملامح الغربة والضياع فيه، ودأبه على الدفاع عن الجياع، ودعوته إلى العدالة الاجتماعية وراء هذا النقد المرير لأحوال الوطن، أملا فى إصلاحه:
يا ثورة نامى لا تقومى
جياع الشعب فى عيونى
شبح كاسر يهددنى
يضيف همك على همومى
ويضيف الشاعر إلى همه الوطنى، هم القدس فى قصيدة “سامحينى”، والمفارقة بين الألم لاحتلالها، والأمل فى تحريرها. يأسى الشاعر لحال المواطن المصرى، وما تعانيه مصر من فساد لا يليق ببلد الحضارة والمنارة والتاريخ والأهرامات
ويشكو الشاعر غربة الوطن فى قصيدة “غربة وطن” وما يدور حوله من مؤامرات خارجية وداخلية تهدف إلى تدميره.
كذلك يثير الشاعر جراح الوطن فى قصيدة “لوحدى فى الملكوت. و”العدالة” هاجس الشاعر الذى يعمل على إقامتها فى مؤلفاته وأنشطته، يقول من قصيدة “العدالة”.
العدل إنك تساوى
بين البشر فى العطايا
وفى كثير من القصائد: تتجلى مصر فى إهاب الحبيبة، أو تتبدى الحبيبة فى إهاب مصر، مثل قصيدة “لو بتحبك”. وكذلك فى قصيدة “دمعة””
فى طابور الحزن دمعة
رافضة تنزل على الخدود
حاسة بيكى يا حبيبتى
ودمعتى ما لهاش حدود
…
نفسى أضحك بس ليكى
نفسى أبكى مش عليكى
نفسى أرسملك بدمى وبدموعى
صورة حلوة من جديد.
وتأتى القصائد التى تعد أغنية عاطفية فى قصائد مثل قصيدة “معنى الحب”:
يا اللى زرعت الحب فى قلبى
علِّم كل قلوب الدنيا .. معنى الحب
وانسى هموم الدنيا بحالها
انسى همومها وعيش بالحب
وقصيدة “دموع فارس”:
قومى غنِّى.. سمعينى
لحد قلبك من جديد
فرحينى.. رجعينى
رجعى قلبى السعيد
واشطبي السطر الملخبط
وفى جوابك فَسَرِيه
والكلام حلو تانى
عودي ليا ورجعيه
والشاعر فى ثلاثيته الإيمانية/ الاجتماعية، والوطنية، والغنائية متسق مع ذاته، حاول أن يقدم من خلال كلماته الشعرية صورة صادقة لكثير من قضايا المجتمع والإنسان المصرى، فى علاقته بالنهر والأرض والوطن والأم والحب والله بشكل يجعله جديرا بأن يكون صوتا صادقا للفقراء .