رغم كثرة الفلسفات وتنوعها في تفسير السلوك الإنساني.. يبقى الموت هو الحقيقية الراسخة التي لا يمكن إنكارها أو الاختلاف عليها.. وتبقى حياة الإنسان “رهينة” بين بوابتين هما بوابة “الرحم” وبوابة “القبر”.. وبينهما أحداث كثيرة، قد يطول أمدها وقد يقصر.. لكنها في النهاية مجرد”أكذوبة” تقع بين “حقيقتين” هما حقيقة “الولادة” وحقيقة “الموت”!
لقد أدرك “عِبدِ لَّه” حقيقة “الموت” دون غيره من شباب القرية، وأراد أن يتعرف عليها عن قرب؛ فقرر أن يعمل “خادمًا “للموتى” و”كاتمًا” لأسرارهم! ورغم أن مهنته كانت “منبوذة” من أهالي القرية، إلا أنه كان دائم الدفاع عنها، والاعتزاز بها. وكان إذا سُئِل عن مهنته يقول: “أنا سيد هذه القرية.. وخادم تلك المِقبَرة”! وإذا سُئل عن سبب انتمائه لهذه المهنة يقول: الموتى لا يعايرون “خُدَامَهم” ولا ينكرون محاسنهم.. وهم على يقين بأنهم لن يعودوا للحياة ثانية، وربما إن عُرِضَت عليهم العودة رفضوا! أما أحياء القرية فلا يحبون الموت، أملهم في الدنيا كبير.. لا ينقطع ما داموا أحياء.. وحين كُنا نسأله هل ترغب في الموت يا “عِبدِ لَّه” يبتسم، ثم يطأطئ رأسه وينظر إلينا في شجن ثم يقول “بالطبع لا”!
لا أتذكر يومًا أنني قد رأيته ضاحكًا، وجهه دائمًا شجى.. كنت لا ألتقيه إلا في لحظات “الدَفن”.. لم يشارك يومًا في تشييع “جثمان” دائمًا كان يسبق “الموتى” إلى المقبرة.. وإذا سُئِل عن هذا يقول: “سبقتهم لأُمَهِدَ لهم الطريق إلى الآخرة”
وحين جاء لأخذ “العَلِيقَةَ” يوم الحصاد، وجدته يطالب والدى بـ”عليقته” وكأنه صاحب حق، فسألته من أنت أيها “اللاحَاد” أي “دافن الموتى” حسبما كان يدعى في القرية -فأجابني- وقد تحشرجت “العبارات” في حَلقِه -بصوت لم أسمعه من قبل: “أنا الذي يُولَدُ كل يوم.. ويموت في كل ساعة.. ويشعر أنه مولود من ألف عام.. اعترف بأنني إنسان قديم جدًا.. وأن حداثتى شيئٌ عَارِض.. أعيش اليوم بينكم “قديم” في بيئة حديثة.. وحين وُلِدتُ كنت “حديثًا” في بيئة قديمة.. صراعي مع الكون دائمًا محتدم.. سبقته حين كُنت طفلًا، والآن يبدو أنه قد سبقنى!
رغم أننى أموت في كل لحظة، إلا أنهم يتهمونني دائمًا بأنني “حيٌ”! يبدو أننى الميت الوحيد في هذا الكون، وربما أكون أنا الميت الحى.. أو الحى الميت.. أعتقد أن الفارق بينهما بسيط؛ لذا لم أستشعره.. لكننى أعتقد أيضًا بأننى أنا الميت الذي لم يسرق الموت منه سوى “الروح” حقًا إننى قديم جدًا!
واستطرد قائلًا: لا شيء يربطنى بـ”حداثتكم” سوى “رائحة النهر” التي حين تناسيتم “نشوتها” تراجعت إلى الجنوب حيث يُبنى السَد، فاختفى من فمى طعم الحياة شيئًا فشيئًا، وحَلًت رائحة الموت! الفارق بيننا كبير.. بالضبط كالفارق بين الموت والحياة.. فأنا من جيل”صَلَّى” للنهر و”كُوفئ” حين حافظ عليه.. وأنتم من جيل صفق لـ”الماتش”!
غريب أنت يا”عِبدِ لَّه”.. ألِهذا كله يهابَك الناس؟! قال”عِبدِ لَّه” ليس لهذا فقط.. الناس لا يخافون من الموت بقدر خوفهم على الحياة.. أنا أجسد لديهم “شبح الموت” الذي يحرمهم من لذة الحياة.. أنا الوحيد الذي إن غِبتُ لا يشعر أحد بغيابى.. وإذا مِتُ لا يبكون عَلَي.. لا يذكرني الناس إلا في حالات الحزن.. لم أُدعَ يومًا لحضور “فَرَح”.. وجودى قد يفسد فرحتهم، لا لشيء سوى لأن حضورى يذكرهم بالموت!
أنا الوحيد الذي حين زوجوه؛ شعروا بأنهم يزفون “ابنتهم” إلى الموت.. رغم أنني الوحيد الذي –حين يموتون- له شرعية النظر إلى عورتهم.. أنا حامل المسك وساكب العطر، وأول من يقرأ لهم الفاتحة، أنا آخر من يأخذهم في حضنه من البشر.. أنا الشخص الذي لا يحبه الناس، وبالرغم من ذلك إذا تحدث صدقوه.. وإذا توعدهم أهابوه.. فالناس لا تُحِبُ الصادقَ دائمًا.. الناس تحب من يخالط “صِدقَه” بعضٌ من المراوغة!
يتعاملون معي وكأنني كائن لا يعرفه الموت.. وأنهم إلي حتمًا قادمون.. وأن أسرارهم سوف تكون معي “إن شئت فضحت.. وإن شئت سترت، هم لا يخافون منى بقدر خوفهم من أفاعيلهم التي خبأوها عبر السنين.. وقد أنبأتهم “الكتب” بأنه فور نزول “الميت” إلى المقبرة تحل إليه “بشائر” الآخرة.. وأنا أول من يراها!
لم يكن لـ”عِبدِ لَّه” صاحب ولا صديق في القرية.. عاش حياته في عزلة قاتلة.. كان رغم فهمه لطبيعة الموت “بخيلًا” وأشد حرصًا من أهل القرية على الحياة.. لم يرزق من الدنيا سوى بنت واحدة.. وحين نصحناه بأن يتزوج الثانية لتنجب له “الولد” قال قريتنا لا تحتاج إلى رجال.. وإذا جاء الرجال؛ فلن يترك أشباه الرجال لهم مكان!
وكان إذا مرض “عبدلَّه” لا يذهب أبدًا إلى مشفى القرية.. دائمًا يتحرى الدقة والأمانة في الطبيب.. وكان يقول مشافكم تمرضنا.. حتى الكتب التي تكتبونها تجهلنا.. وحين كنا نصادفه في إحدى العيادات الكبرى يقول ذهابي إلى الطبيب ليس خوفًا من الموت أو رغبة في الحياة.. وإنما أُريد إذا قُدِرت لى الحياة؛ أن أعيشها دون وجع!
كان “عِبدِ لَّه” يشعر بالموتى أكثر من الأحياء، كريم جدًا في الاهتمام بأهل القبور.. فكان لا يروق له النوم سوى بجوار المقبرة.. وكأن الفارق الوحيد بين حياة الموتى والأحياء بالنسبة له هو سور ضعيف من “الحجر”.. لم يتصور أهل القرية يومًا بأنه سوف يأتي اليوم الذي يودعون فيه “عِبدِ لَّه” إلى القبر.. كان “عِبدِ لَّه” على يقين بأن القرية سوف تتزين لموته.. لذا فقد كتب على واجهة القبر “مات عِبدِلَّه” لكن الموت لن يموت!