أخبار عاجلة

د.مجدي العفيفي يكتب… إلا.. الطابق السادس في «الأهرام» (6)

رحم الله شيخ المفكرين العرب شيخنا العظيم توفيق الحكيم ، في خضم عاصفة الصحراء التي هبت على شيخنا الجميل، أهداني نسخة من كتاب «الأحاديث الأربعة»، وكتب إهداءه لي وهو يضحك: ( إلى «………» الكاتب الذي يؤمن بما له من حق الزواج بزوجات أربع، وأن يضعهن في شقة واحدة بالعدل والقسطاس، توفيق الحكيم 6 أكتوبر 1983).

قل هي ابتسامة مفكر حكيم يتسامى في دائرة النقطة الأخيرة من سطر حياته..

قل هي نظرة حانية فكيهة ذات احتواء لصحفي شاب في عنفوان الشباب يخطو خطواته المتسارعة في شارع الصحافة والثقافة والفكر والقلم، من شيخ بلغ من العمر 89 عامًا (9 أكتوبر 1898 – 26 يوليو 1987).

قل هي التعادلية التي كان قد ابتكرها كنظرية أو مذهب ظل يدعو إليه في مؤلفاته وجدلياته مع الإنسان والزمان والمكان والعالم والكون..

قل ما تشاء في العلاقة بين ربيع وخريف.. بين ثنائيات لا تبدو متعارضة بل متجاورة ومتحاورة.. وأوراق بخط يده عن أهم عشر محطات في حياة المبدع الذي شغل الدنيا وملأ الفكر والوجدان بروائعه.

و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».

كأني أرى أستاذنا الجليل توفيق الحكيم جالسًا في مكتبة رقم (606) وهو يرتشف قهوة الثانية عشرة ظهرًا (بالتمام والكمال) كعادة يومية عريقة من عاداته الجميلة، ومستغرقًا في التفكير، مرتكزًا بجانب من وجهه على يده، وهو يرفع حاجب الدهشة الذي لا يريد أن ينخفض، جراء الضجة التي أثارتها أحاديثه الأربعة التي نشرها في الأهرام، « مع وإلى الله » وزاد من إشعال أوارها بعض من المتزمتين رأيًا، والمتحجرين فكرًا، والصارخين في الآبار القديمة، وهذه الضجة التي حدثت وصفها بقوله «طارئة ودخيلة على القضية» التي انطلقت من هذا الطابق الذي كان يتمايز بالمزاوجة بين المعنى والمبنى.

المفارقة التي كانت تحزن الحكيم، وقد نشرت هذه الحوارية ذات الشجن الفكري الأليم في «الأخبار» واستفاض هو عنها في مقدمة كتابه، أن هذه الأحاديث لم تخرج عن كونها نوعًا من المناجاة مع الله تعالى، إنها مناجاة بلغتي الخاصة وثقافتي الخاصة… تعبيرًا عن حبي الخالص لربي فلن أقبل الفكر الذي يصدر بلا تفكير من غير عقلي الذي خلقه الله ليفكر، ولا أرتدي بلا مناقشة ما خرج من قلب وعقل الآخرين دون تأمل وتمحيص.. ».

و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».

تتجاذبني في وقفتي أمام بهو الطابق السادس أو «متحف الخالدين» كما كان يحلو لبعضنا نحن أبناء صاحبة الجلالة الصحافة، الذكريات التي لا تنزوي أبدًا في حنايا النسيان، ولا تستطيع، ولا ينبغي لها، حول قضية الأحاديث التوفيقية الحكيمية الأربعة، وجوهرها الذي استبقته ذاكرة الأيام بعد أن تخلصت دلالاتها إلى حد كبير من التباسات الواقع الاجتماعي والتي كانت مرتبطة بلحظتها المتعينة تاريخيًا، تلاشت العاصفة ذات الغضب اللفظي الذي طغى على الغضب الموضوعي، وذهبت شظايا المعارضين وبقيت تجليات الحكيم.

أربعة مقالات تنبثق من ثناياها تجليات عبد من عباد الله يسبح ربه بطريقته .. صهيل قلب مخلوق يناجي خالقه العظيم بشكل غير مألوف.. كتلة سردية تخل بالتوازن وتعصف بالنظام الثابت للأشياء في هذا السياق.. جمالياتها غلبت الضجة التي وصفها هو بأنها طارئة ودخيلة على القضية الجوهرية، التي التي أفرد لها مكانًا نظرًا لأهميتها، عندما أعاد نشر هذه (الأحاديث – المقالات) المنجمة في كتابه “الأحاديث الأربعة” وقد استبعد فيه كل الكلمات والأسطر التي كتبت تخيلات منسوبة إلى الله مراعاة للحساسية الدينية التي لا أريد إطلاقًا أن تسبب إزعاجًا لأي مؤمن، كما حرصت على تخريج الأحاديث الشريفة والأفكار التي وردت في الأحاديث الأربعة والتي قال عنها بعض العلماء إنها أحاديث موضوعة ضعيفة أو غير موجودة فعدت إلى المصادر التي استقيتها منها فإذا بها أحاديث حسنة الإسناد لا يكاد يخلو منها كتاب من أمهات الكتب الإسلامية.

و.. لا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام».

سطور روحية مضيئة.. وحروف نورانية تشرق من نفس مطمئنة وهي تتهيأ للرجوع إلى ربها راضية مرضية، أو هي تتمنى ذلك، توسل إلى رحمة ربها، وترجو لقاءه: «نعم يا ربى.. لن أكتمك حديثا.. ولم يبق لى فى هذه حياتى الآن سوى الحديث معك.. فقد عشت الحياة التى قدرتها لي أكثر من ثمانين عامًا.. جعلت أهيم خلالها فى كل واد، حاملًا قلمًا، أملأ به الأوراق بين جد وهزل، ولا أظن أننى فعلت بذلك خيرًا كثيرًا.. ولكني أذكرك كثيرًا.. وأتحدث إليك طويلًا.. وأعلم أنك تسمعني.. لأنك سميع بصير.. ولكن الحديث معك ليس بيسير.. لأنك عليم بكل شيء.. وما أقوله تعرفه.. وليس من حقى أن أسألك إجابة أو ردًا.. وليس لبشر أن تكلمه أنت إلا وحيًا.. ومن أكون أنا حتى تحدثنى أنت بالوحى.. لن يقوم إذن بيننا حوار، إلا إذا سمحت لى أنت بفضلك وكرمك أن أقيم أنا الحوار بيننا: تخيلًا وتأليفًا.. وأنت السميع، ولست أنت المجيب، بل أنا فى هذا الحوار المجيب عنك افتراضًا، وإذا كان مجرد حديثي معك سيغضب بعض المتزمتين لاجترائي في زعمهم على مقام الله سبحانه تعالى، خصوصًا وحديثى معك سيكون بغير كلفة، أى من القلب الصافى وحده، لا أتكلف فيه صنعة الأسلوب، فأنا سأخاطبك مخاطبة الحبيب لحبيبه، الحب ليس كمثله حب، لأنك أنت ليس كمثلك شيء».

يلخص الحكيم العاصفة الهوجاء في كلمتين «إن أسلوب الكلام مع الله كان غير مألوف عند رجال الدين؛ لأنهم مثل رجال القانون ورجال العلم لا بد أن نخاطب الله بعبارات مألوفة مقدمًا فإذا استخدمت لغة أخرى فإنها تبدو غريبة وهذه الرغبة قد تصدم أحيانًا مشاعرهم، ولكني والحق يقال لم أصادف أحدًا من رجال الدين المعروفين ما يدل على أنه اعتبرني حقًا خارجًا عن الدين، بل كان ما قالوه هو أنني خاطبت الله بلغة ليست مما اعتادوا سماعه، وخاصة عندما قلت إنني سأكلمه بغير كلفة (…) إذن الخلاف كله جاء نتيجة أني لم ألجأ إلى الكلمات الرسمية المألوفة والمحفوظة في مخاطبة الله، وقد فهم ذلك بعض رجال الدين وإني أحبهم كلهم وأقدرهم ولا أحمل لهم أي عتاب؛ لأنهم في موقفهم كانوا أكثر الناس خوفًا على إيماني من أن يمس بتحرري من استخدام الأساليب المألوفة» طبقا لما ذكره أيضًا لمأمون غريب في“هؤلاء والإسلام” على سبيل التأكيد.

في الأحاديث الأربعة.. نفحات ولفحات.. حريق ورحيق.. أشواق وأشواك.. تحقق للذات بالذات.. حيرة وتحيير في الذات الإلهية التي ندور كلنا في فلك نور منها، أو نتضرع إلى الله أن يمن علينا ولو ذرة أو بعض ذرة من هذا النور…!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *