كل مواد الدستور والقوانين في لبنان قابلة للجدل والنقاش والتوظيف السياسي في نظر المسؤولين، الذين يجدون دائماً من يسخّرونهم لهذه الغاية من جهابذة الفقه والقانون .
من الجدل حول المادة ٤٩ في الدستور وتعطيل جلسات انتخاب رئيس للجمهورية مدة سنتين، إلى المادة ٥٣ المتعلقة بصلاحية رئيس الجمهورية في تشكيل الحكومة والخلاف على تفسير ومعنى «يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة» ، وإلى المادة ٦٤ وإجراء رئيس الحكومة المكلف الإستشارات النيابية لتشكيل الحكومة، وإلى المادة ٩٥ والخلاف الذي حصل حول تعيين عناصر دورة الدفاع المدني، وعدم توقيع رئيس الجمهورية للمرسوم، بسبب عدم التوازن الطائفي ، وثم توجيه رسالة منه إلى المجلس النيابي لتفسير هذه المادة، التي ألغت قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف العامة، باستثناء الفئة الأولى ، ليقع فيها الالتباس على عبارة «وفق مقتضيات الوفاق الوطني» .
لم يتمكن اللبنانيون من حسم الجدل حول أي من هذه المواد الدستورية والقانونية، وانتهت الأمور دائماً بالإهمال أو بتسويات بين أقطاب السلطة، ضاربين بعرض الحائط بالدستور والقوانين .
اليوم ينقسم السياسيون وخلفهم رجال القانون، حول موضوع جديد، أثاره استدعاء قاضي التحقيق العدلي في حادثة الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت، في الرابع من آب هذا العام.
طبعاً يعلم القاضي فادي صوان الأصول القانونية لمحاكمة رئيس الوزراء والوزراء ، خاصة فيما يتعلق بجرائم الإخلال بالواجب الوظيفي . ولهذا السبب وجّه كتاباً بهذا الخصوص إلى مجلس النواب ، الذي حصرت به المادة ٧٠ من الدستور، صلاحية اتهام الوزراء ورئيس الحكومة، في الجرائم المتعلقة بالخيانة العظمى والإخلال بالواجب الوظيفي. على أن يتم ذلك وفقاً لإجراءات محددة، تم تفصيلها في القانون رقم ١٣ الصادر بتاريخ ١٩٩٠/٨/١٨، والذي نظّم أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء .
نصت المادة ٢١ من هذا القانون على «يعتبر كل ما يتعلق بطلب الاتهام سرياً، ويُحظّر نشره تحت طائلة الأحكام المنصوص عنها في القوانين المرعية الإجراء. تُرفع السرية اذا أقرّ المجلس النيابي الاقتراح وأصدر قراراً بالاتهام».
فلماذا قام المحقق العدلي بهذه العراضة الإعلامية مخالفاً القانون؟ ومن حاول توريط القضاء؟ وهل فعل القاضي صوان ذلك بهدف التنحي عن متابعة التحقيق؟
أما النقطة الثانية المهمة في القانون ، هي أن المتهم بريء حتى تثبت ادانته، ولا يشكّل استدعاء قاضي التحقيق لشخص ، ما إدانة مُسبقة له، وتبقى قرينة البراءة قائمة حتى استكمال اجراءات المحاكمة، والتي يتخللها حكماً الاستماع إلى جهتي الإدّعاء والدفاع، وثم إصدار الحكم.
الجميع يريد طبعاً معرفة الحقيقة في موضوع انفجار المرفأ، بدءاً من الجهة التي كانت خلف ادخال شحنة نترات الأمونيوم إلى لبنان، الى الذين سمحوا بتخزينها ومنعوا إعادة تصديرها، إلى كل الذين تغاضوا عن الخطر الذي كانت تُشكَّله، رغم علمهم بذلك، وإلى الذين أهملوا وقصّروا في القيام بواجباتهم .
ولهذا السبب قلنا سابقاً أنه لا بد من تحقيق دولي، ليس بسبب عدم أهلية أو ضعف الثقة بالقضاء اللبناني، بل لأنه هناك أشخاص وعناصر خارجية ، لها علاقة بهذه الجريمة، ولا يمكن للقضاء اللبناني التحقيق معها، ومن الصعب كشف الحقيقة الكاملة دون ذلك .
أثار قرار القاضي صوان باستدعاء رئيس حكومة تصريف الأعمال وبعض الوزراء من جهة سياسية محددة ردود فعل ، جعلت الأمور تبدو وكأنها مزايدة سياسية طائفية ، أكثر مما هي عملية اجراءات قانونية ، أو سعي لتحقيق العدالة . ووضعها البعض في خانة استهداف من الرئيس عون والتيار الوطني الحر ليس لمن تم استدعاؤهم بل لمن يقف خلفهم، أي الرئيس نبيه بري ، وسليمان فرنجية، إضافة الى رئاسة الحكومة والرئيس حسان دياب .
فمن الناحية القانونية، يصعب الموافقة على صلاحية المحقق العدلي، باستدعاء رئيس الحكومة والوزراء. لأن الجرم المدّعى به هو مرتبط بالواجب الوظيفي، وليس جرماً عادياً، وهو بالتالي من صلاحية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء ، والذي لا يحق للقضاء العدلي تحريك الدعوى أمامه، فهذه الصلاحية أيضاً مناطة حصراً بمجلس النواب .
واذا كانت الجرائم العادية التي يرتكبها الوزراء تبقى خاضعة لصلاحية القضاء العدلي، فهناك التباسٌ أيضاً في هذه النقطة ، حيث لم يوضح القانون، ما هي الجرائم العادية، وما هي الجرائم التي يُمكن اعتبارها إخلالاً بالواجب الوظيفي .
لقد اعتبر حزب الله في البيان الذي أصدره أمس ، أن ادّعاء القاضي صوان، لا يستند إلى حقائق ومعايير موحّدة، ووضعه في خانة الاستهداف السياسي، وفي نفس السياق كانت زيارة الرئيس المكلف سعد الحريري إلى السراي الحكومي وإعلانه التضامن مع الرئيس حسان دياب، ورفض الادعاء عليه بهذه الطريقة المخالفة للدستور والقانون. وكذلك كان موقف المفتي دريان الذي استنكر الإدّعاء على رئيس الحكومة.
في الجهة المقابلة دافع فريق عن خطوة المحقق العدلي، واعتبرها نقيب المحامين في بيروت ملحم خلف، أنها خطوة شجاعة في استجواب بعض المسؤولين، وأدان ما يتعرض له القاضي صوان من حملة استهداف.
غرّد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط فكتب : إن التحقيق في انفجار المرفأ يجب أن يشمل الجميع ، فوق كل اعتبار طائفي أو سياسي أو دستوري . إن كارثة المرفأ جريمة بحق الانسانية، وبحق أهل بيروت ولبنان . احترموا شعور أهل الشهداء والجرحى، وشعور الذين فقدوا كل شيء . حافظوا على القضاء، وعززوا استقلاليته فوق الحسابات الضيقة.
وكما في كل مرة في لبنان ، يتجاوز الجميع القوانين والدستور، ويثيرون السجالات والقنابل الدخانية، فيتم تسجيل بطولات وهمية، ويذهب التحقيق وكشف الحقيقة أدراج الرياح.
لا داعي لإثارة الغبار وزج السياسة في القضاء، واستغلاله في فتح ملفات ومعارك عبثية، للانتقام السياسي والكيدية، وتسجيل النقاط، وزيادة الانقسام، ومذهبة كل شيء. وأفضل السبل لكشف الحقيقة ومحاسبة المذنبين الحقيقيين، هو التزام نصوص الدستور والقانون، وليس القفز فوقهما لتسجيل مواقف شعبوية.
إن وجود محكمة استثنائية ك «المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء» المنصوص عنه في الدستور ، لا يمنع قاضي التحقيق من الاستماع إليهم كشهود. واذا وجد ما يدينهم في جريمة تتعلق بالخيانة العظمى أو الإهمال الوظيفي ، عليه عندها إحالة الملف عبر مدعي عام التمييز، ووفقاً للأصول، إلى المجلس النيابي، حتى يقوم المجلس بما يفرضه عليه القانون، من تحريك للدعوى، ومحاكمة للذين يتم اتهامهم