لم يعد هناك أدنى شك فى أن تعريفات الأمن القومى حتى الآن وهو ما أظهرته تعقيدات الأزمة الراهنة فى مصر، قاصرة، وذلك على ضوء الخبرة الطويلة مع اختبار مقومات عقل أكبر، حتى لا يذهب الجسد ضحية عقل صغير.
فالثابت أن الأمن يرتبط ارتباطا مباشرا بالدولة ومقوماتها وبالمجتمع والمصالح العليا للمجتمع والدولة، وكل ما يؤدى إلى صيانة هذا الأمن وتنميته وأهم هذه العوامل الداعمة لهذا الأمن إدراك المجتمع لعوامل القوة والضعف فيه، والسعى لتلافى عوامل الضعف أو تحويلها إلى قوة. كما يجب أن يسعى المجتمع إلى تعزيز العوامل الايجابية فى المشهد ويظل للأمن القومى مستويات متعددة من درجات الأمان ومن مصادر التهديد، ولذلك يتعين على المجتمع أن يكون قادرا على تحديد هذه المستويات والمضمون الحقيقى للأمن القومى.
وحتى نصل إلى تحديد المفهوم الجديد وما يجب أن يتبع فى الأزمة المجتمعية السياسية الشاملة الراهنة فى مصر، نورد فيما يلى عددا من الملاحظات فى هذا الصدد.
الملاحظة الأولى: أن الصراع على السلطة فى مصر يزدهر ويتجاوز خطوط الأمن القومى، كلما كان المجتمع جاهلاً، والنخبة هشة، والإطار المجتمعى والقانونى لهذا الصراع ليس واضحاً. ومثال ذلك، فإن الصراع يتحول إلى منافسة فى أطر قانونية كلما كان المجتمع نفسه ضابطا لسلوك النخب، وكلما كان القانون واضحاً وصريحا فى ضبط الحركة السياسية. فقبل ثورة 23 يوليو، كانت مصر محتلة من جانب الانجليز، ولكن سلطات الاحتلال سمحت ولو بقدر محدود للقوى السياسية، أيا كان موقفها من الاحتلال، بالحركة فى حدود دستور وقوانين وضعها برلمان المصريين ويحاسب الجميع على أساس هذه المرجعيات. أما النخب فكانت تعتبر العلم والثقافة مقياسا للتفاضل، وهما قيمتان يحرص المجتمع عليهما وتتمسك النخب الثقافية والسياسية بهما وتتسابق لإعلائهما، ولذلك كانت الصحف تتمتع بمكانة مرموقة، وكان فى مصر مدارس للرأى السياسى بالفكر والإعلام، هذه هى ركائز الدولة الحديثة التى كان للاحتلال والنخب الدور الأكبر فى إرسائها. أما هوية مصر فلم تكن محل جدل فهى دولة كل المصريين وكل العقائد السماوية، وحرية الأديان والعبادة والرأى والابداع مسئولية الدولة التى لم تكن تمثل المجتمع بالمعنى الحديث لأن المجتمع المصرى كان يحافظ على قيم ذاتية لم تجرؤ أية سلطة عبر التاريخ على المساس بها، وكانت تلك القيم هى التى تمثل النظام العام فى مصر. ولحسن الحظ فإن مصر بقيت حية بهذه القيم التى سمحت لأبناء الريف أن يصلوا إلى كل المناصب وأن يحددوا موقعهم فى المجتمع الجديد فى إطار هذه القيم. وأذكر أنه فى إحدى سفارات مصر سمع أحد العاملين بالقرارات الاشتراكية الناصرية عام 1961، فاعتقد أن عبدالناصر يدعو إلى المساواة بين المصريين لأنهم جميعاً أبناء تسعة أشهر فخاطب السفير بهذا المعنى خروجًا على قيم هذا المجتمع، وهذه لفتة مهمة فى فهم كيفية تلقى المجتمع لأفكار لا يتم تبسيط معناها.
الملاحظة الثانية، هى أن الدين مكون أساسى عند المصريين جميعاً وأن الدولة على مر العصور احتكرت تفسير الدين وتقديم الثقافة الدينية، وهذا من أهم أفضال الأزهر على مصر والمصريين وسبب الاحتفال الكبير بعلمائه وخريجيه، وهو الذى حفظ القيم والحركة الوطنية وشكل وعى المصريين باعتدال وببساطة تصل أحيانا إلى ما دون إدراك العقل الواعى كما يخبرنا طه حسين فى كتاب الأيام من أنه استمع إلى الإمام محمد عبده ما شفى غليله فى المرتبة العقلية للقرآن بعد أن نزل «الفقى» فى كتاب القرية بآيات القرآن إلى الإسفاف.
يترتب على هذه الملاحظة ثلاث خطوات مهمة : الأولى هى دعم منهج الأزهر ومكانته ليحتكر مرة أخرى العلم الدينى دون حجر على الذين يجتهدون فى إثراء علوم القرآن بما ينسجم ويدعم المقاصد العظمى لهذا الدين.
المهمة الثانية هى التركيز على التربية والعلم الصحيح وعدم ترك الأمور لحطمة القوم والمتطفلين على التربية والتعليم.
المهمة الثالثة حظر توظيف الدين فى أى موقف سياسى يحترم فئة معينة، ولكن الدين يستدعى بوعى لدعم القضايا الوطنية.
ولا أخفى أننى عندما أكتب فى هذه الأمور خاصة فى هذه النقطة تتقافز إلى ذهنى المنكرات السياسية كالفتاوى والمواقف الداعمة لموقف الحاكم، مما يجعل موقف فقهاء السلطان بشعاً أمام العامة، وهم المسئولون عن تحريف الدين والحط من قدره، حتى تسببوا مع جماعات الإسلام السياسى فى ظهور ملاحدة فى بلد الأزهر، كفرا بالتجربة أكثر من كفرهم بخالق الكون، لأن الإيمان به جزء من ذراتهم، وهو عهد بنى آدم مع الله فى القرآن.
الملاحظة الثالثة، أن الأمن القومى كان مفهوماً تضعه النظم ولم يشارك فيه المجتمع، كما تطوعت نخب لدعم مفهوم الحكم والنظام، واصطف وراء الحاكم بذهبه وسيفه أرتال من رجال الدين والعلماء والأساتذة والإعلاميين والمرتزقة، وأذكر على سبيل المثال كيف أن الإعلام ومجمع البحوث الإسلامية تبنى جدار مبارك الفولاذى، ولازلت أذكر عنوان مقالة افتتاحية لأحدهم تحمل رائحة الخطاب القرآنى، فإذا هى آية من آيات النفاق والإلحاد السياسى فى دعم الجدار والاستخدام القبيح لحقائق فى غير موضعها للتدليل على سلامة الفكرة.
هكذا فقد الأزهر فى عهد مبارك، كما فى عهد عبد الناصر والسادات دوره، كما توزعت النخبة بين حركة وطنية صامدة ولاؤها للوطن، وطغمة تأكل مع موائد السلطان وتعبث بوعى الناس وتدلس على فهمهم للدين، مادام المتحدث إعلاميا شهيرا يتقاضى الملايين، أو شيخا وقورا أفقده الجشع هيبة الملبس والمكان، فصار شيطاناً فى رداء الشيخ، كما صار الأستاذ النابه فى علمه من أدوات هذه المؤامرة القبيحة، فصار الأمن القومى، هو ما يخدم سلطة الحاكم، حتى صار الأمن القومى هو حرق الكنائس والفتنة الطائفية، وإفقار الشعب وتهميش العلماء والزراية بوظيفة العقل والثقافة، بل السعى بالنهب إلى تبسيط الثقافة فى مجتمع كفر بالثقافة والمثقفين. وقد أبعد العلماء الوطنيون عن الساحات حتى لا يوقظ حديثهم المجتمع ضحية هذه المؤامرة الكبرى. ولذلك لا يجوز أن نلوم المواطن إن فقد الثقة فى أن لصوته ثمنا سياسيا فباعه بما أتيح له من ثمن، وصدق كل ما قيل له، وأعفاه تزوير النظام والإعلام الفاسد والنخبة الساقطة من مشقة التصويت، فصوت له النظام توفيرا للجهد ومنعا من وقوع المواطن فى الحرج.
نحن إذن إزاء أوضاع معقدة تراكمت عبر العقود بل القرون انفرد فيها الحاكم بالتأكيد على أن أمن مصر هو أمن نظامه ومن والاه.
الملاحظة الرابعة، هى أن مصر كانت دائماً ساحة لتصفية حسابات الطامعين فى السلطة. فقد صفى جمال عبدالناصر من قبله، وسمى حركة الجيش ثورة رغم أنها انقلاب عسكرى واضح، ويحلو للبعض أن يردف، بأن الانقلاب تحول إلى ثورة بالبرامج الاجتماعية، وهو خلط واضح بين طريقة نقل السلطة، وسياسات النظام الجديد. ونكل عبدالناصر برموز النظام الملكى رغم أن المجتمع المصرى بدأ رحلة الانهيار فى كل القيم منذ ذلك التاريخ، وهى مرحلة تحتاج إلى دراسة موضوعية فى تحولات المجتمع المصرى. وأتى عبدالناصر بكل من يؤيد حركته بصرف النظر عن كفاءتهم ووطنيتهم، وعسكر كل قطاعات الدولة، ثم أعادت هزيمة 1967 الماحقة التوازن مرة أخرى ولكن بالتشفى من الجيش الذى ظلم مرة من قياداته العليا التى تسببت فى المأساة، ومرة من البعض الشامتين.. وعندما أطاح السادات بنظام عبد الناصر سماها بثورة التصحيح وأطلق 15 مايو على مدن وكبارى تخليدا للذكرى بل اعتبر نصر أكتوبر أهم آثار القضاء على النظام الناصرى. فلما جاء مبارك حفظ جميل السادات فيه، ووجد ما بدأه السادات متفقا مع استعداده فى الداخل والخارج، فترك لمصر تركة ثقيلة يجب أن تعرف بها الاجيال القادمة ولذلك كانت كلماته أنا أوالفوضى دافعاً لتفسير البعض أن مشاركة الإخوان فى الثورة ثم فى الحكم انتقام من مبارك، ثم جاءت هبة الشعب فى 30 يونيو ضد الإخوان والتيار الإسلامى، ولذلك ليس غريبا أو مهينا القول بأن هذه الهبة شارك فيها نظام مبارك والرافضون للإخوان والرافضون للتيار الإسلامى عموما والناقمون على ضياع الوقت دون أن تتحقق آمالهم وهذا هو المعيار لأى حكومة فى السلطة لأن الشعب لا يهمه اسم الحاكم لكن يهمه ما يقدمه من إنجازات عملية.
لا أدرى كيف يلتقى الجميع، وكيف يكف الإعلام عن مقاطعته للعقلاء واختيار بعض الشخصيات والنشر لبعض الأقلام وحرمان الشعب من حقه فى المعرفة، لكن الذى لاشك فيه أن هذا الصراع يبتلع مصر كلها ويسهم هؤلاء جميعاً فى رحلة الضياع.
الملاحظة الخامسة والأخيرة، هى أن المفهوم الجديد لأمن مصر القومى فى المستقبل على المدى البعيد هو إطلاق حملة قومية للثقافة واستخدام العقل والتوعية وتطوير برامج التعليم والإعلام والثقافة، فقد ثبت أن تعزيز القدرات العسكرية وإن كان مطلوبا، إلا أنه متوقف على مصادر الخطر وتحالفات التسليح والتدريب والعقيدة العسكرية، كما أن المجتمع المصرى يعانى فى كل شىء بسبب غياب العقل المصرى الذى يستطيع أن يمنع تكرار مآسى مصر عبر النظم المختلفة حتى هذه اللحظة، ولتتنافس الحكومات والنخب والإعلام بعد توبة كبرى عن خطاياها لمصر والمصريين على تمكين العقل المصرى من العمل، بدلا من تقديم الثقافة إلى مجتمع لايؤمن إلا بلقمة العيش، وسد الرمق المادى وتراجع قيمة الرمق العقلى. هذه هى روشتة مصر للمستقبل، حتى ننفذها من حفارى القبور وعشاق الخرائب والجنازات والأحاجى والدجالين فى مجال الدين والسياسة والإعلام والحياة والأخلاق.
المجتمع هو الذى يضع لنفسه مفهوم الأمن القومى وليس الحاكم، والشعب كان دائما ضحية مؤامرة كبرى من أجهزة يدفع لها من قوته حتى تسهم فى تحطيم عقله ووعيه وتغرقه فى المخدرات والهلاوس أو الخرافات، كلها حروب ضد العقل والوعى والمنطق. نحن فى أمس الحاجة إلى القدوة وبرامج التوعية الموضوعية وليس التوجيه السياسى الخبيث، ارحموا وطنكم يرحمكم الله، اللهم هل بلغت اللهم فاشهد.