مع اقتراب الذكرى الثالثة لموجة ثورات ما يسمى بالربيع العربى أصبح ممكنا أن نحدد الآثار الأولية لهذه الثورات على العالم العربى وخاصة القضايا التى قامت من أجلها وهى الاستقلال والوحدة والعدل للشعوب خاصة الشعب الفلسطينى والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة للوطن والمواطن.
فى البداية يجب أن نسجل ثلاث ملاحظات تحيط بهذا التقييم للثورات العربية.
الملاحظة الأولى: أن الآثار السلبية لهذه الثورات لا يعود أساسا إلى العيب فى الثورة، وإنما العيب فيمن نسبت لها نشأة الأوضاع التى أدت إلى الثورة، وهو بشكل مباشر الحاكم المستبد الذى أعلى الأنا المتضخمة التى أصيب بها على المصلحة العليا لوطنه، فضاع وأضاع وطنه وأشقى شعبه فى السلطة وخارجها. ولا يمكن الحديث عن المؤامرات الخارجية بمعزل أو علاقة الحاكم بهذه المؤامرات وتغلغلها فى داخل وطنه، بل إن تفاقم مشكلة الأنا هذه هى التى أعمته عن الحقائق فلا يرى إلا نفسه ولا يسمع إلا صوته أو صوت بطانته المنافقة فأودى بالشعار البراق الذى رفعه ودفع الشعوب تتعلق به مثل تحرر فلسطين والأقصى فى القلب منها، وتحقيق الوحدة العربية والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة. ولذلك فنحن بحاجة إلى تحليل مضمون الخطاب السياسى والإعلامى لكل من قامت الثورة ضدهم.
الملاحظة الثانية: هى أن سمعة كلمة الثورة التى قامت بها الشعوب، باعتبارها فكاكا من الظلم والقهر والفقر، دفعت الحكام إلى إطلاق هذه الصفة على حركاتهم حتى يكسبوها الشعبية المطلوبة والشرعية اللازمة للتمكن من السلطة والوطن، .هكذا فعل البعث فى سوريا 1963، 1968 والعراق 1958 والقذافى 1969 والنميرى 1969 واليمن 1978 وتونس 1987 وغيرها. ولذلك لا يمكن أن نطمئن إلى دراسة نظرية عامة للثورة فى العالم العربى، وربما كانت صفة الثورة أقرب إلى 25 يناير فى مصر، ومن قبلها بأيام فى تونس وبعدهما بأسابيع فى اليمن، أما فى سوريا 2011، والبحرين، فلكل سياق مختلف رغم أن الشكوى واحدة.
الملاحظة الثالثة: إذا كانت ثورات الربيع العربى قد ظهرت فى صفوف الشعوب دون قيادة ضد الحكم المستبد، فإن واشنطن تولت تحديد مصير الحاكم العراقى وتمزيق العراق، والنيل من عروبتها ونهب ثرواتها وتفتيتها وترك الإرهاب والطائفية لإكمال ما فات المحتل الأمريكى، وشطب العراق من عداد القوة العربية الشاملة، وما يحدث فى مصر وتونس واليمن والسودان وسوريا ليس ببعيد عن واشنطن وإسرائيل ومن والاهما من الأوساط العربية فى محاولة استخدام الثورات لتفتيت الدول العربية وإنهاء القضية الفلسطينية بالضربة القاضية لصالح إسرائيل بدلا من بناء دولة القانون والحرية.
وفى ضوء هذه الملاحظات، أصبح ملائما إلقاء الضوء على ما خلفته هذه الثورات فى القضايا العربية الرئيسية التى أشرنا إليها.
القضية الأولى: هى القضية الفلسطينية. كان من أهداف الثورات العربية فك الارتباط والتواطؤ بين إسرائيل والحاكم العربى لأن هذه العلاقة تحت رعاية واشنطن أخضعت الدول العربية للاختراق الإسرائيلى وجعلت الحديث عن القضية الفلسطينية مجرد كلمات، ولطالما كان الحديث عن «قضية العرب الأولى» سببا فى كسب الشرعية لهذه النظم، فلما لم يعد للعرب قضايا، توقف الحديث عن القضية الأولى أو الأخيرة، ولم يعد الحاكم العربى يهمه أن يدافع عن شرعية نظامه. وكان يفترض أن تغرز هذه الثورات نظما تحقق استقلال القرار ومساندة حق الشعب الفلسطينى فيحدث ذلك أثرين، الأول دعم القدرات الفلسطينية المادية والسياسية وإزالة أسباب وتحديات الضعف فى الساحة الفلسطينية، والأثر الثانى هو الضغط على إسرائيل حتى تشعر أن قوة العرب مضافة إلى قوة الجانب الفلسطينى وبذلك لا تُقدم إسرائيل على ابتلاع ما تبقى من الأراضى الفلسطينية، وألا يجرؤ المستوطنون على الجور بمساندة الجيش الإسرائيلى على الفلسطينيين.
والظاهر أن تولى الإسلاميين السلطة فى مصر وتونس لفترة كان يراد لهم أن تكمل إسرائيل ضم فلسطين والقدس فى عهدهم إمعانا فى إحراجهم أمام ناخبيهم. ولذلك تفاءلت جميع اللقاءات التى بحثت أثر تولى الإسلاميين السلطة على إسرائيل والضفة والقدس. والنقطة الغائبة فى أى تحليل لهذا الملف هى أن الإسلاميين لم يتمكنوا من أدوات السلطة ولم يسمح لهم بتنفيذ ما كانوا يطالبون به ويعبرون عنه انطلاقا من فكرة التضامن الإسلامى. والنتيجة هى أن إسرائيل وواشنطن قد لعبا دورا هائلا فى تعثر الثورات أو كتابة خاتمتها أو تحريف التيارات الإسلامية إذا حكمت عن المسار الصحيح الذى تريده الشعوب العربية.
ثانيا: قضية العدالة الاجتماعية والمواطنة. أصبح واضحا أن الأوضاع فى هذه القضية قد تدهورت بشكل خطير بسبب عدم الاستقرار السياسى وبسبب نجاح الثورات المضادة فى تعثر الثورات وهى فى طريقها نحو إقامة نظام يعبر عن آمال الشعب. فقد دفعت الشعوب العربية ثمنا دمويا واقتصاديا فادحا دون أن تحصل على الاستقرار والازدهار والعدالة الاجتماعية والمساواة والمواطنة.
ثالثا: قضية الحرية والكرامة. لا خلاف على أن القيود على الحريات وامتهان الكرامة الحصيلة النهائية للثورات وأن من تولوا السلطة فى معظم الاحيان لا علاقة لهم بالثورات.
رابعا: أما الاستقلال الوطنى، فهو خرافة، إذ زادت الثورات دولها تبعية واستلحاقا رغم كل الدعاوى الزائفة على عكس ذلك. غير أن أخطر ما أدت إليه هذه الثورات هو الضربة القاصمة للمجتمع، فزالت وحدته، وصار العداء يخترق الأسرة الواحدة، وهى حالة أخطر من الحروب الأهلية، فانحسرت سماوات الوطن وبحث الكل عن ولاء وسماء تظله، فصارت الأوطان العربية إلى تشقق وصراع، وصار الحديث عن الوحدة الوطنية يثير الضحك ناهيك عن الحديث عن الوحدة العربية، وصار الفكر القومى نذير شؤم يذكر بأن العرب أساؤوا إلى أنفسهم بسبب المستبدين من حكامهم.
وإذا كانت العروبة والإسلام هما هوية هذه الثورات، فإن تفتت الأوطان العربية والضربة الثانية بعد 11 سبتمبر لصورة الإسلام فى ثنايا تجارب السلطة بعد هذه الثورات يمس صميم الهوية فى هاتين الدعامتين.
الخلاصة، ثورات الربيع العربى بسبب تعثرها كانت ضرورية لخلع الحاكم المستبد، ولكن إصرار الحاكم المستبد وأعوانه فى الداخل والخارج على تعويق مسيرة الثورة وعجز الثوار وتناحرهم أحيانا، أدى إلى ما هو أسوأ مما كان سائدا قبل هذه الثورات وهو تفتيت الأوطان والمجتمعات وزيادة البؤس والقهر وتقنيين الحريات والصراع بين التيار الإسلامى وغيره من التيارات الأخرى، وتراجع معدل الاستقلال الوطنى، وتقدم إسرائيل كمستفيد وحيد مما جرى فى العالم العربى.