د. مصطفى شاهين يكتب.. إيمان شيخك ، ليس هو إيمانك !

مهما كان مقام شيخك ، ومهما كانت محبتك وطاعتك له ، فالحقيقة المؤكدة أنك ( أنت ) لست شيخك . وبمثل تأكيد الحقيقة السابقة تستطيع أن تؤكد أنك أنت الذي ( تؤمن ) وليس شيخك ، وأنت الذي ( تعتقد ) وليس شيخك ، وأنت الذي ( يجب أن تفهم ) وليس شيخك . فهل تعلم كيف يمكنك أن ( تستقل بالفهم لإيمانك ) عن فهم شيخك ؟! ولا يعني الاستقلال هنا أن يكون لك ( أصول إيمان ) مختلفة عن أصول إيمان شيخك ، تلك التي أمرنا الله ورسوله أن نؤمن بها وهي : الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقضاء والقدر خيره وشره حلوه ومره . نعم هذه الأصول واحدة ، لكن ( توقيعها في القلوب ) ليس واحدا . ويكاد يصدق القول : إن الإيمان يختلف وقوعه في القلوب باختلاف القلوب ، ويتقلب بتقلبها 
     ومن عجيب ما تجد في هذا المجال أن تقرأ وتسمع تعبيرات خطيرة عند كثير من ( أتباع ) شيوخ الفرق والجماعات مثل : ( ظِفر إصبع المرشد عندي برقبة أبي وأمي ) . ( لو أن الأعمار توهب ، لوهبت – للشيخ فلان – ما بقي من عمري ) . ( إن الشيخ – فلان – يمثلني حرفيا ، ولا اعترض على رأيه وكلامه ) . ( في عقيدتي التي أدين الله بها ، وألقاه عليها ، أن كلام الشيخ – فلان – لا يقل منزلة في قلبي عن كلام الله ورسوله ، لأن الشرح والتوضيح للنص لا يقل أهمية عن النص ) . ( إذا قال الإمام ، قال الله ) . وتعبيرات غيرها كثيرة يمكنك أن تجدها على ألسنة وفي شغاف قلوب ( أتباع الشيوخ ) وأعضاء الجماعات الإسلامية المعاصرة
      إن مثل هذه التعبيرات ( العقدية الخطيرة ) يجب مواجهتها بالتحليل الدقيق والنقد ، بل والنقض . وهي تدل في وجهة نظري ليس فقط على ( ضعف أو نقص إيماني ) لدى هؤلاء الأتباع ، بل أيضا تدل على ( انعدام وعي إيماني ) لديهم . إذ أن ( الاستقلال التديني الذاتي ) والتعبير الإيماني عنه ، والذي يجب وجوده لدى ( كل ) مؤمن ، يُعد أحد المرتكزات الأساسية لتحصيل ما أسميته من قبل بمفهوم ( الأمن العقدي في الإسلام ) . فلا أمن عقدي يمكن أن يتحقق ( بحق ) لأحد بمجرد الركون التام إلى مطلق ( اعتقاد وفهم الشيخ أو المرشد أو الأمير ) ، مهما كان تحصيل علمه وذيوع صيته ؛ لأن التابع لن يكون هو المتبوع أبدا ، لا في مجرد الإيمان ولا في محاولة التعبير التنظيري عنه . وإنما قد يتحقق الأمن العقدي لدى المؤمن ، ابتداء بواسطة بحثه ( العقلي المستقل ) في أصول الإيمان وقضاياه ، ليصل فيها هو – وليس شيخه أو مرشده أو أميره – إلى ( قناعته ) التي تحقق له الأمن العقدي ، الذي هو أساس كل أمن في الحياة . بغية أن يكون من الذين قال الله فيهم ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم ) ، ومن الذين قال الله فيهم ( أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) صدق الله العظيم 
      وهنا يبرز السؤال الخطير المتعلق ( بمنهجية ) الشيوخ والأمراء نحو أتباعهم : هل يعلمونهم تعليم ( تلقين ) أم تعليم ( تفهيم ) ؟! هل يعلمونهم ( ليوم يتركونهم فيه ) أم يعلمونهم باعتبار أنهم ( سيدبرون ) أمرهم إلى يوم الدين ؟! الحقيقة أن أكثر شيوخ اليوم هم الذين ( غرسوا ) في نفوس أتباعهم ( بذرة ) الطاعة ( الإيمانية ) العمياء ، لقبول ما يريدون لهم أن يفهموه ، دون اعتراض أو حتى مناقشة . وإذا تجرأ أحد من الأتباع ( وحاول فقط ) أن يفهم أمرا ما ( فهما مستقلا ) عن ( الفكر ) الذي يقول به شيخه ، سيواجه التابع بسيل من تعبيرات التحقير للذات والفكر والعقل ، من عينة : من أنت يا فسل حتى تقول بكلام غير كلامي . لا تجادل يا أخ فلان وإلا وقعت في المحظور . من اعترض انطرد . كن بين يدي مرشدك أو شيخك كالميت بين يدي المغسل . اترك عقلك حيث تترك حذاءك 
     إن هؤلاء الشيوخ المدّعون للإمامة والتعلم ، قد يعتقدون أن ( عرشهم الدعوي ) سيتزلزل ويقضى عليه ، إذا علّموا أتباعهم كيف يمكن لهم أن يفكروا – في قضايا الإيمان – تفكيرا مستقلا عنهم . وحجتهم جاهزة طبعا : ( ليس كل مؤمن يمكنه أن ينظّر للإيمان ) . ( أين العوام من فهم عميق كلام الإيمان ) . ولعلهم فهموا خطأ مقصد الإمام الغزالي من تأليف رسالة ( إلجام العوام عن علم الكلام ) ، ولم يفهموا صوابا مقصد الإمام الأشعري من تأليفه رسالة ( استحسان الخوض في علم الكلام ) بغض النظر عما قيل في مدى صحة نسبتها إليه  
     إن هؤلاء الشيوخ في الحقيقة يخافون على أنفسهم ومكانتهم ومكاسبهم إذا فهم أتباعهم التدين والإيمان فهما مستقلا عنهم . وهذا هو ( الكساد الدعوي الحقيقي ) ، فأيما شيخ لا يحض تلميذه أو مريده أو تابعه على محاولة ( الفهم العقلي المستقل ) للتدين والإيمان هو كالطائر الأب الذي يحرم ابنه الوليد من تعلم الطيران وحده دون تبعيته له طول حياته ، وهو بذلك يعجزه طوال حياته ، وأظنه لن يدعو له بعد أن يفهم ذلك من غيره . وبمثل ذلك لا يجب أن يعامل المشرف الجامعي تلميذه في مرحلة ( الدراسات العليا ) الماجستير والدكتوراه . أين هؤلاء الشيوخ المدّعون للإمامة والتعلم من ( فعل ) النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ( الصحابة ) ، حيث كان ( يحُضّهم ) على إعمال عقولهم ، ومن ثم تحقق لديهم الفهم المستقل لتدينهم وإيمانهم 
      ويشهد الواقع العملي في حياة النبي بإعمال الصحابة عقولهم بالتفكير في أدق الأمور العسكرية وفي أصعب اللحظات الأخيرة قبل لقاء العدو، والأهم من ذلك أخذ النبي بما فكر به هؤلاء الصحابة . مثال ذلك  : ما حدث في غزوة بدر الكبرى حيث أخذ النبي بمشورة الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري فيما يخص الموقف من ماء بدر ، وقال له النبي : لقد أشرت بالرأي ، ونفذ ما أشار به الحباب . وأخذه صلى الله عليه وسلم بمشورة سعد بن معاذ بأن يبنوا له عريشا يكون فيه . وليس شيء أكثر في الدلالة على حض النبي للصحابة  بإعمال العقل بالتفكير المستقل من حادثة ( تأبير النخيل ) التي كان النبي يرى أن التأبير لا يفيد ، ولكن لأن الواقع العملي أثبت أنه يفيد ، فقد ترك النبي الأمر هنا للخبرة العملية الحياتية التي مدارها على إعمال العقل ، حيث قال ( أنتم أعلم بشئون دنياكم )  صلى الله عليه وآله وسلم
     أخيرا وليس آخرا ، مما حزّ في نفسي ، أثناء تدريسي لمادتي الفرق الكلامية والفكر العربي المعاصر للدراسات العليا ، أن بعض باحثي الماجستير والدكتوراه (الكبار) ، وجدت منهم ( اندهاشا واستنكارا ) لمجرد أن طلبت منهم ( نقد موقف الفقهاء من علم الكلام وعلمائه ) . ولعلهم كانوا متأثرين بنصية شيوخهم ، لكنهم في النهاية صحت ( منهجيتهم البحثية ) وأعملوا عقولهم ، وأبدوا وجهة نظرهم المستقلة المؤيدة بالنقد المنهجي الموضوعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *