أخبار عاجلة

د. مصطفى شاهين يكتب.. إلا من أتى ( الناسَ ) بقلبٍ سليم

والله الذي لا إله إلا هو  ، لن ( تأتي اللهَ ) بقلب سليم في الآخرة ، حتى (تأتي الناسَ) بقلب سليم في الدنيا . هذه قضية مُحكمة قطعية ، نتيجتها المؤجلة في الآخرة ، لازمة حتماً عن مقدمتها العاجلة في الدنيا . وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد اشترط على العبد لزاما سلامة القلب لكي يلقاه فائزا في الآخرة ، فقال سبحانه ( إلا من أتى الله بقلب سليم ) ، فإن العبد يجب عليه التزاماً في الدنيا سلامة القلب في التقاء الناس ؛ لكي يكون مؤهلا للقاء الله في الآخرة بقلب سليم . وهنا يظهر سؤال خطير ، وإجابته أخطر منه ، مفاده : هل سلامة القلب ( مع الناس ) أمر فطري وهبي من الله لا حيلة للعبد فيه ، أم أنها أمر كسبي جهدي من العبد يمكن بعمله أن يصل إليه ؟
     وقبل الإجابة على هذا السؤال ، نذكر بإيجاز قصة رجل ( عادي ) من صحابة النبي ، أدت به سلامة قلبه للناس في الدنيا ، أن يكون من أهل الجنة في الآخرة : فقد كان من الأنصار ، وقال عنه النبي – ثلاث مرات – ( يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ) ، فتبعه عبد الله بن عمرو بن العاص ، واحتال لمعرفة حقيقة الأمر ، بادعاء خصومة وقعت بينه وبين أبيه ، فبات عنده  ثلاث ليال ، فلم يجده يعمل أعمالا ( تعبدية ) كثيرة ، بل كاد أن يحتقر عمله الذي كان يعمله ، فسأله ( مَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ ؛ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ . فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ ) . وللقصة تفصيلات أكثر مذكورة في كثير من مصادر الحديث والسيرة . 
     والشاهد الأهم في القصة ، هو أن ذلك الصحابي كان يبيت ولا يحمل في نفسه (غشا أو غلا أو حسدا) لأحد من المسلمين .  والشاهد المهم ، هو قول عبد الله بن عمرو ( هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ ، وَهِيَ الَّتِي لا نُطِيقُ ) . فهل قول عبد الله (وَهِيَ الَّتِي لا نُطِيقُ ) تحصيلها بخصوص نفسه ، يغلق الباب على غيره بالاجتهاد لتحصيلها ، أي سلامة القلب ؟! 
      ولو كنت مكان عبد الله بن عمرو بن العاص لسألت ذلك الصحابي سؤالا مباشرا : ماذا كنت تفعل من ( قبل ) ، حتى صرت ( بعد ) هكذا ؟ . وكيف تعهدت نفسك حتى أدركتها سليمة ، فسلم قلبك ؟ لكن المحير في الأمر أن ذلك الصحابي لم يكن له كثير عمل تعبدي بقيام الصلاة بالليل أو التطوع بصيام النهار . ويظهر أن الأمر كان معقودا عنده على ( فعل ) من ( نوع خاص ) ، وهو تعهده نفسه بتصفيتها من كل علائق الناس في الدنيا ، قبل أن ينام كل ليلة ، وهو بهذا الفعل أدرى بنفسه . واستحضاره ( بالفعل ) ذكر الله في قلبه دائما ، وبهذا الفعل شهد له عبد الله بن عمرو  ، حيث قال عنه إنه (  إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ ) . إنه كان يداوم على استحضار ذكر الله في قلبه حتى وهو نائم ، فإذا تعار غطاؤه  أو تقلب جسده ، رغما عنه ، يجد فعله الدائم حاضرا في قلبه وهو ذكر الله وتكبيره حتى يقوم لصلاة الفجر .
     إنني لست من الذين ينكرون سابقية الله بالعطاء لعبد واختصاصه بأمر خاص ، ففضل الله يؤتيه من يشاء . ولكني أعتقد أنه كما أن ( الحلم بالتحلّم ) و ( الصبر بالتصبّر ) ، فيمكن أن تكون ( سلامة القلب بالتسلّم ) . ولابد لها من ( جانب تنظيري ) معرفي يلزم العبد بمعرفة ما يتعلق بها . ولابد لها من ( جانب تفعيلي ) تدريبي استمراري ، حتى تتحق في القلب فيشعر بحلاوتها من تحصل عليها ، ويعبر عنها ، وهو يعلم أنه لن يشهد له نبي ولا صحابي بجنة أو نجاة ، لكنه يكون أدرى بحاله وكفى . 
     وقد تسمع بعضهم يقول (أنا قلبي صافي وسليم من ناحية كل الناس) ، وهو أدرى بقلبه. وكأن الأمر مجرد ترديد لسان بجوّانية ما فيه ، لكن في الواقع من البغضاء والحسد والغل والغش ، ما نحن جميعا نعانيه . وبسبب من ذلك تدمرت العلاقات ، بل تدمرت القلوب  . وهل المؤمن إلا ( قلب مخموم ) ، لا غل فيه ولا غش ولا حقد ولا حسد  . وإن صيام  ثلاثة أيام في كل شهر . والتهادي ، إعطاءً وقبولاً . و التدريب على ما أسميه بـ (التسلّم القلبي) ، تعد وسائل (عملية)  تساعد على تحصيل سلامة القلب في الدنيا . 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *