أخبار عاجلة

د.مجدي العفيفي يكتب… إنسانية الإنسان.. أنسنة الإعلام (2)

التخلي والتحلى والتجلى في ( أنسنة الإعلام) تجعل الإنسان ( مواطنا عالميا)
هل تتغلب ( أنسنة الإعلام ) على ( وحشية الإعلام )  الذراع اليمنى للفوضى؟
إعلام «فن التعايش المشترك» وسمو التسامح وثقافة قبول الآخر في المجتمع العُماني

إعلام «فن التعايش المشترك» في مسقط :
قبل ثلاثين عاما أو يزيد كان ثمة سؤال كبير مطروح على رجالات الفكر والسياسة والفلسفة والإعلام: في أي عصر من التاريخ نحن نعيش؟ مسميات كثيرة وعديدة .. عصر التليفزيون.. عصر الطفل .. كل العصور في عصر واحد .. عصر اختفاء قوة عظمى واحدة، وظهور أربع قوى..  عصر التساؤلات الغزيرة.. عصر المواطن العالمي.. عصر الصوامع الالكترونية .. عصر العزلة الكونية.. لكن الإجماع على أنه عصر الإعلام.. كان ذلك والإعلام لم يكن بهذه الدرجة من الاتساع في السعة والكثافة والتشعب  والتوهان في عالم الميديا الذي لا يعرف القيود.. ولا يعترف بالحدود..
من هنا تعاظمت المسئولية الإعلامية لدى من يتحمل أمانتها.. هيئات وشخصيات .. ولا تزال تتعاظم في ظل ثورة الاتصالات وثروة المعلومات.. إذ شهد المنظور الإعلامي العماني الذي امتد منذ العام 1970 وظل يتسع  عبر موجات من المواكبة والمواجهة.. والتأقلم والاحتواء للثوابت وتحسب المتغيرات.. لاسيما أن المنظومة العمانية متكاملة حلقاتها التي يفضي بعضها إلى بعض، متناسقة مساراتها المختلفة ..  متناسجة  خيوطها مشدودة .. متجاورة أبعادها .. متقاطعة خطوطها .. لاشيء فيها يخضع للصدفة والمصادفة..
وفي حواراتي المستمرة مع الإنسان والزمان والمكان في سلطنة عمان، منذ أربعين عاما، أشهد أن هذه الرؤية تتجسد شواهدها وتتكرر مشاهدها بلا عناء، إذ إن مطابقة التصورات للتصديقات ملمح مركزي في الخطاب العماني، وفي زيارتي الأخيرة إلى مسقط  لمست هذا  العزف الجماعي والمجتمعي في أكثر من سياق.
كل مرحلة لها متطلباتها وتحدياتها ولها مكوناتها.. في عقد السبعينيات كانت استراتيجية تأسيس الدولة والمجتمع.. وكان عقد الثمانينيات هو بمثابة تثبيت نقاط الإتكاز للتعامل الإقليمي والدولي.. وشهد عقد التسعينيات مرحلة الاستقرار والتمكين والمشاركة، حتى إذا أطلت الألفية الجديدة فإذا المشهد العماني يشي بتجاوز مراحل التجريب ليستقر على شاطيء العطاء الإنساني، هدوءا واتزانا
تخلَّقت النواة الأولى لرسالة الإعلام في المجتمع الجديد عبر السنوات الأُول للنهضة، صوتا إذاعيا وكلمة صحفية وصورة مرئية من  جماليات هذه العبارة«إذا كنت أكره شيئا فهو الإبهار في الإعلام، أريد أن يأخذ كل شيء حجمه الطبيعي» طبقا لتعبير السلطان قابوس بن سعيد،  في لغة تلك المرحلة الأولية ثمة علامات تحمل جينات المنظومة الإعلامية العمانية في امتدادها بعد ذلك تشكيلا ودلالة من قبيل:«رسول سلام»و«المرآة الصافية»و«الفكر الإعلامي»و«الصدق»و«الموضوعية»و«دون مبالغة أو تهويل»و«لايعتمد على الإثارة»و«نقل الحقائق»و«الغذاء اليومي للرأي العام»و«النقد البناء»و«كلمة صادقة وخبر صحيح»و«صيانة الحريات»و«التطور النوعي والفكري»وقد تلقت وسائل الإعلام فتحملت أمانة الإتصال بالمجتمع والعالم، رغم الإشفاق عليها من زخم التحديات والتصدي لها، مدركة حساسية تلك الفترة منذ منتصف السبعينيات،حيث كانت التحديات السياسية  الاجتماعية وسافرة، تزامنت مع بداية عهد جديد ولا بد من تثبيت دعائمه، وتزامن مع ذلك بناء المجتمع وتنميته، ومعالجة  قضايا التغيير الاجتماعي.
كان الإعلام العماني منذ مطالع مرحلة الثمانينيات، يسير على حد السيف، وكأنه يتمثل«شعرة معاوية» سواء أكان في تعامله مع الأحداث الداخلية حيث المجتمع الذي اقتحم عملية البناء وإعادة الصياغة والتخلص من شبح حرب العصابات في جبال ظفار، أم في تعاطيه مع التحديات الإقليمية حيث الأخطار المحدقة بدول الخليج والجوار من كل ناحية، والسعى لتمزيق المنطقة العربية والشرق الأوسط بأسره، الذي شهد ثلاثة حروب (الحرب العراقية الإيرانية 1980) ثم (حرب الخليج الثانية 1990) ثم (الثالثة 2003)  وصولا إلى عقد الألفية الثالثة حتى استوت نسبيا على شاطئ الاستقرار المحفوف بالتوتر على الصعيد العالمي، فكانت الرسالة الإعلامية العمانية مدروسة منذ البداية، أم في تحاوره مع العالم حيث التأكيد على الشرعية الدولية التحاما بهيئات العالم ومنظماته واستعادة الدور العماني بشكل معاصر، خاصة أن هذا السعي قد تزامن مع سقوط قوى عظمى وصعود قوى أخرى بشكل يتخذ من الهيمنة سبيلا في العلاقات الدولية، فكان على الإعلام العماني أن يتمثل ما صرح به الخطاب السلطاني بأن «العالم لا يعترف إلا بالأقوياء».
من أجل ذلك أوقف الخطاب السلطاني على الإعلام رجالا يعرفون بسيماهم من حيث قوة الانتماء والإيمان بحقيقة المجتمع الجديد، ومدى إدراكهم لجسامة المسئولية، ومقدرتهم على تحقق استثمار عنصري المواكبة والمواجهة معا، وتعزيز طرفي هذه المعادلة بالعلم والمعرفة لاستيعاب متغيرات العصر التي طغت على ثوابته، فجعلت مناطق كثيرة وساخنة من العالم تتعرض للاهتزاز الحضاري، وعلى أول قائمتها منطقة الشرق الأوسط.
واستطاع الإعلام بكل وسائله ومفرداته وطرائقه أن يواكب التحولات منذرا ومبشرا بعيدا عن التهويل ، مرتكز على المقولة المركزية للسلطان قابوس أن تكون وسائل الإعلام ( رسول سلام).. ومفردة السلام تتجاوز المعنى الضيق وتحلق بأجنحة الإنسان وإنسانية الإنسان في فضاءات غواية الصورة ووشايتها وتغول الفضائيات .. وتتراكم التحديات وتنشب أظافرها لكنها لا تخيف الا الضعفاء في المتعقد والبناء الداخلي للتكوين الإنساني
وتصفق كلمة ( أنسنة الإعلام) مصطلحا ورؤية وهدفا وغاية في الفضاء الفكري الإعلامي، ولعلها  تستأنس  بالخطاب العماني الذي ينهل من الإنسان  كمعين لا ينضب، الإنسان بالمعني الجزئي والكلي، وبالمنظور الواسع الذي يكسر أفق التوقع، كما قال وزير الإعلام  الدكتور عبد المنعم بن منصور الحسني «عندما نتحدث عن أنسنة الإعلام علينا أن نكون انسانيين بيننا وبين أنفسنا وبعدها بيننا وبين العالم ..إننا أمام مرحلة علينا أن نتماسك جميعا:  أفراد، ودول، ومنظمات حتى نصل إلى بر الأمان.. وأن الأفكار التي  تطرح في هذا السياق تحتاج إلى آليات تنفيذ وهذه الآليات ليست ملقاة على عاتق الحكومات فقط ، ، و«أنا لست مع أن يكون الإعلامي ضعيفاً .فقط يتلقى ما يرد إليه ، كل المساحات مفتوحة أمام الإعلام ، مشيراً إلى وجود مطالبات لتنظيم بعض هذه المساحات وخاصة تلك التي تنتهك خصوصيات الأفراد..»
كل ذلك يسم من التجربة العمانية بالفرادة في القدرة على تحقق إعلام «فن التعايش المشترك» بين المكونات المجتمعية المختلفة، وسمو التسامح وثقافة قبول الآخر التي يمتاز بها المجتمع العُماني وتشكل إحدى سماته الرئيسية» طبقا لإجماع المراقبين،  ولمفهوم «أنسنة الإعلام» أكثر من معنى، طبقا لتوصيف  الكاتب الخليجي د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري  أن يتعاطف الإعلامي مع الحالات الإنسانية الناتجة عن الحروب والكوارث والمآسي، مع اللاجئين والهاربين والمشردين والمظلومين والمضطهدين.. هذا مطلوب، لكنه مفهوم ضيق.. (أنسنة الإعلام) لها مفهوم أوسع من التعاطف الإنساني في حالات الكوارث، معناها: الانحياز للإنسان وقضاياه وحقوقه، وأن يكون له الأولوية على الحكومات والأنظمة.
تتماس دعوة وزير الإعلام العماني مع الأدبيات الإعلامية التي تدعو إلى التركيز على ما يجمع البشر لا ما يفرقهم، وعلى ما يرسخ القواسم المشتركة بين الأديان والمذاهب والمعتقدات والثقافات، وإضاءة الأوجه الإيجابية للشراكة بين الشعوب والمجتمعات، معناها: أن يكون الإعلام عوناً على نشر ثقافة التسامح والمحبة والمواطنة ونبذ التعصبات القبلية والطائفية والأيديولوجية وفكر الكراهية والإقصاء.. أن يساهم الإعلام بالدفاع عن حريات التعبير وحقوق الإنسان، وتثمين التعددية الدينية والمذهبية والسياسية والثقافية،  أن يدعم الإعلام إعادة الاعتبار للرأي الآخر المهمش وشرعنته، وترسيخ ثقافة الحوار، وحق الاختلاف السياسي والديني والمذهبي، من غير تكفير أو تخوين أو إقصاء، معناها : زرع الأمل والإيجابية في نفوس الشباب وتحبيبهم في الحياة والأحياء، وتحصينهم من فكر التطرف والغلو والتكفير والكراهية .
يطمح وزير الإعلام د. الحسني للوصول إلى إعلام إنساني.. لا تقهر فيه إنسانية الإنسان.. و(يتخلى) عن كل ما يخل بتوازنه ، لـ (يتحلى)  بقيم أخلاقية مضفرة بعبير إنساني، لـ (تتجلى) الروح الإنسانية في كل مفردة إعلامية، وما بين التخلي والتحلى والتجلى في ( أنسنة الإعلام) يصبح الإنسان( مواطنا عالميا) وتتحقق فيه الكوكبية  بكل أبعادها المحلية  والإقليمية والعالمية.
ومن يرصد سيرة ومسيرة الإعلام في سلطنة عمان  يشهد  أنه كان قويّاً وداعماً ومستمرّاً لكل عمل إنساني، ومن ثم فقد زاد دعم الرّأي العام له ومساندته لوضوح الصورة وتقبّل الرسالة الإنسانية، وهو أمر ينسجم ويتناغم مع المنظور الإعلامي في العالم  الذي يرى أن الجانب الإعلامي لا يهمل الأعمال الإنسانية، فيقدّم لها الإهتمام المطلوب، من خلال إعطاء تغطية الحدث أو البرامج الإنسانيّة، أهميّة كبرى في دوره كإعلام إنساني، وهذه الرسالة الإنسانية التي ينبغي ان يتميّز بها الإعلام اليوم بمختلف أشكاله ونشاطاته المتعدّدة، يكتسب انتشاره الثقة به من خلال وسائل الإعلام ممّا يؤثّر على كافة وسائل الإعلام.
إنها مهمة شاقة ينهض بها الإعلام في مراياه  الجديدة .. أو يفترض ذلك..
أنسنة الإعلام …( أمل ) جديد في دائرة ( ألم) تستبد بإنسان هذا العصر ويدور فيها بلا توقف ، تسحقة الآلة الإعلامية التي تنعق لأصحاب القرارات التي تنتهك الإنسانية تحت مسميات ترتدي الأقنعة..
أنسنة الإعلام تقول: لا لتهميش الإنسان وتهشيم أخلاقياته .. !.
وكل إنسان يدرك المعنى الإنساني العظيم لإنسانيته يتمنى أن تزول مقولة المنظرين الغربيين ( الإعلام هو الذراع اليمنى للفوضى)
وكفى العالم ما لاقاه  ويلاقية من تداعيات هذه المقولة الغاشمة ذات الغواية العنيفة..
وكلنا يرجو أن تتغلب ( أنسنة الإعلام ) على ( وحشية الإعلام ) … ذلك الوحش الذي صار يعيش داخلنا.. وبإرادتنا.. !،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *