أخبار عاجلة

د.مجدي العفيفي يكتب… رحيل عالم سوري ملأ الدنيا وشغل الناس..!

كلما رحل عالم ، أجد نفسي في حالة من الوجد العميق، وتتغشى القلب موجة من الشجن، فموت العلماء مصيبة عظيمة، وحادث جلل، لما لهم من الأثر البليغ، يُعرف بهم النور من الظلمات، والحق من الباطل ، والحلال من الحرام، والضار من النافع، علميا وعمليا ودنيويا وأخرويا.
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها
متى يمت عالمٌ منها يمت طرفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها
وإن أبى، عاد في أكنافها التلفُ
وجاء في الأثر كلمات كثيرة عن معنى رحيل عالم من العلماء: العلم العالم للأمة بدرها الساري.. وسلسالها الجاري.. حياتهم غنيمة.. وموتهم مصيبة.. يذكرون الغافل.. ويعلمون الجاهل..لا يتوقع لهم بائقة.. ولا يخاف منهم غائلة.. بحسن تأديبهم يتنازع المطيعون.. وبجميل موعظتهم يرجع المقصرون.. جميع الخلق إلى علمهم محتاج.. والصحيح على من خالف بقولهم محجاج ».
أقول قولي هذا وكاتب هذه السطور لا يزال في حالة حزن فكري إثر تلقيه نبأ رحيل المفكر السوري الدكتور محمد شحرور( 1938 – 2019) الذي يتجلى بمنظومة فكرية ذات عمر علمي طويل، تحتوي رؤاه كإنسان عربي وكمفكر مسلم وكباحث اسلامي، يعيش مطالع القرن الحادي والعشرين، تحت لواء القرآن الكريم ، تؤرقه قضايا فكرية اسلامية، وتهزه مفاهيم ينبغي (التخلي) عنها، ليكون (التحلي) بفهم جديد، بعيدا عن السائد والمألوف والتقليدي ، ومن ثم يكون (التجلي) بقراءة معاصرة تنطلق من الارضية المعرفية التي نتحرك عليها بين الاستقامة والحنيفية، بين الثوابت والمتغيرات ، بين التأويل والتفسير، بين الالتزام والاجتهاد في فهم النص المقدس ، سعيا الى تأصيل نظرية معرفية قرآنية ، لاسيما وأن المذاهب والنظريات والفلسفات التي تتنازع خريطة الفكر في العالم، نشاهدها تتهاوى وتساقط.. لأنها مؤقتة ومرتبطة بأسماء شخوصها ، وبالتالي سرعان ما تنتهي بانتهاء أسبابها ـ او بالأحرى ـ تتكسر موجاتها قبل الوصول الى شواطيء غاياتها .
منظومة الدكتور محمد شحرور تتمثل في عدة مؤلفات تشكل ملامح مشروع فكري اسلامي بالمعنى الشامل والانساني لـكلمة (الاسلامي) وليس بالمفهوم الضيق: زمانا ومكانا وانسانا.. والمنظومة تتشكل من ثلة من المؤلفات : (الكتاب والقرآن) ثم (دارسات اسلامية معاصرة .. في الدولة والمجتمع ) و(الإسلام والإيمان) و( فقه المرأة) و ( تجفيف منابع الارهاب) و( القصص القرآني) و (الدين والسلطة – قراءة معاصرة للحاكمية) ثم (أمُّ الكتاب وتفصيلها – قراءة معاصرة في الحاكمية الإنسانية)
هذه المؤلفات التي تستحق وقفة سريعة بعد سطور تعصف بالنظام الثابت للمفاهيم المتخلفة، وتخل بالتوازن الوهمي لدى هؤلاء الذين يعرضون علينا صورا شاهدناها من قبل آلاف المرات ويسيرون بنا في طويق تعبنا من السير فيه.. هؤلاء المتخلفة عقولهم كانوا في حالة شماتة لا حدود لها من الرحيل الشخصي لهذا المفكر الباقي بشخصيته، انه واحد من المجددين في الفكر الإسلامي الذين يهزون عروش هؤلاء وكراسي هؤلاء المتاجرين بالدين.
لا استدعي كلماتهم الضئيلة وفيديوهاتهم الضالة، وهم يقتطعون عبارات للرجل من سياقاتها الفكرية ويعرضونها مجتزأة فتخلق إساءة للرجل سرعان ما تنكشف وتكشف سواءاتهم وألاعيبهم الصبيانية.
هؤلاء لا ولن يفقهوان معنى أن الكاتب هو الأطول عمرا والأغزر مكرا والأبقى أثرا.. وأن حملة مصابيح التنوير لا تطفئها أفواه يدمن أصحابها تدمير منظومة القيم .. ولكن هيهيات هيهات..!
في كتابه الأول ( الكتاب والقران ..قراءة معاصرة)سعى الدكتور شحرور الى فض الاشتباك في فهم المطلح القرآني : الكتاب والذكر والفرقان والقرآن ، والسع المثاني ، وتحدث عن النبوة والرسالة والانزال رالتنزيل واعجاز القرآنوتأيوله وجدل الكون والانسان ، ونظرية المعرفة الانسانية ، وام الكتاب والسنة والفقه ، وطرح عشرات القضايا التي لا تزال تثير علامات الاستفهام والاعجاب والتعجب ، في سياق الاجتهاد الذي نفتقر اليه.
وفي كتاب الثاني (دارسات اسلامية معاصرة .. في الدولة والمجتمع ) طرح مفاهيم جديدة للاسرة والامة والقومية والشعب والثورة والحرية والديمقراطية والدولة والاستبداد والجهاد في رحاب الفهم الاسلامي والاجتهاد المستنير ..
وفي كتابه الثالث (الاسلام والايمان.. منظومة القيم )شغلته منظومة القيم هذه وقدم رؤى مغايرة لأركان الاسلام والايمان والشهادة والشهيد والاسلام والسياسة، وغير ذلك من المفاهيم داعيا الي اعادة اكتشاف منظومة القيم على بينات جديدة .
وفي كتابه الرابع ( تجفيف منابع الارهاب) يثير مواضيع ذات حساسية تلعب دوراً أساسياً في صياغة قناعات العنف تحت عنوان الجهاد والقتال والشهادة، وهل هناك شيء اسمه عمليات استشهادية؟أم هي بدعة على الثقافة الإسلامية؟هذه المواضيع هي الولاء والبراء والرِّدّة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقاصد الشريعة التي تضمنها هذا الكتاب الذي حاول فيها الدكتور محمد شحرور إلقاء الضوء على هذه المواضيع مجتمعة، لا كلٍّ على حدة.
وفي كتابه الخامس ( القصص القرآني) يقدم تحليلا جديدا وعلميا لقصص الأنبياء، إذ يستهلّ المجلّد الأول بمقدّمة أساسية تطرح فلسفة للتاريخ من خلال قراءة القصص القرآني بمنهجيّة علمية توظّف المعارف المستجدّة في مجال العلوم الأنثروبولوجية والآثارية، ويصل إلى نتائج تنفي التناقض بين القرآن والعلم، مخرجاً القصص من إطار السرد التاريخي إلى آفاق إنسانية ومعرفية، ويفكّك المؤلّف العقلية التراثية التي تعاملت مع القصص، وينتقد اعتمادها على الأساطير البابلية والتوراتية وتغييبها لمبدأ البحث والسير في الأرض كمنطلق رئيسي في فهم التاريخ، ويتابع المؤلّف في الجزء الثاني منه السير على طريق النبوات ليرى كيف تراكمت علوم النبوة ومعارفها، وكيف اكتشف الإنسان النار ودفن الموتى، ثم كيف تعلّم على يد نوح اجتياز الحواجز المائية، وعلى يد شعيب الوفاء بالكيل والميزان، وعلى يد يوسف ادخار محاصيل مواسم الخير لأيام القحط، ويتابع السير على طريق الرسالات ليرى كيف تنوّعت الشرائع وتطوّرت من شرائع حدية إلى شرائع حدودية، مع ميل واضح إلى التسهيل والتخفيف؛ وكيف اختلفت الشعائر، من حيث الشكل، في صورتها التعبدية. فالصوم كان صوماً عن الكلام مطلقاً، وصار صوماً عن الطعام والشراب وملامسة النساء واجتناب الكلام البذيء والفاحش، والصلاة كانت دعاءً وذكراً، ثم أخذت شكلاً شعائرياً قياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً يشترط فيها الخشوع.
وفي كتابه السادس (السنّة الرسولية والسنّة النبويّة: رؤية جديدة) يقدّم المؤلف قراءة معاصرة للسنّة بشقّيها: الرسولية والنبوية، بديلاً للمفهوم التراثي لها، الذي يفيد الاتباع والقدوة والأسوة والطاعة… ويفصّل المقامات المحمدية الثلاثة: الرسول – النبي – الإنسان. كما يقرأ مفاهيم العصمة والمعجزات وعلم الغيب والشفاعة، ونقد مفهوم الشافعي للسنّة، وكذلك مفهوم عدالة الصحابة.
وفي كتابه السابع (الدين والسلطة – قراءة معاصرة للحاكمية) يتناول الباحث جدلية العلاقة بين الدين والسلطة انطلاقاً من مفهوم الحاكمية، مستعرضاً مراحل تطوّر هذا المفهوم بدءاً من الكتب الفقهية التراثية، مروراً بالإسلام السياسي المعاصر، وصولاً إلى الحركات السلفية الجهادية، ويقدّم مفهومه المعاصر للحاكمية الإلهية التي يرى أنها تمثّل الميثاق العالمي الذي يمكن من خلاله تحقيق السلام في العالم. والولاء له هو ولاء للقيم الإنسانية، ويتجسّد من خلال احترامه لهذه القيم وتمسّكه بها والدفاع عنها من منطلق قناعة شخصية مبنية على الانقياد الطوعي للحاكمية الإلهية. ويرى أن هذا الولاء الديني الإنساني هو الرادع لكل من تسوّل له نفسه ممارسة الطغيان على الناس لسلبهم حرّياتهم، وهو الذي يمكنه أن يحقّق السلام العالمي الذي يحثّ عليه الدين الإسلامي.ويتابع شحرور في هذا الكتاب مشروعه النقدي التحديثي للفكر الإسلامي، مضيفاً لبنة جديدة إلى المنهج الذي يسعى من خلاله إلى إبراز عالمية وإنسانية الإسلام بوصفه رسالةً رحمانية، لا عقيدةً طاغوتية.
وفي كتابه الثامن (أمُّ الكتاب وتفصيلها – قراءة معاصرة في الحاكمية الإنسانية) يتابع الدكتور محمد شحرور في كتابه هذا قراءته المعاصرة للتنزيل الحكيم، وذلك من خلال تطبيق منهجه على موضوع المحكم والمتشابه، متتبّعاً المفاهيم التي تحملها هذه الآيات حول هذين المصطلحين، وما يرتبط بهما من مواضيع ذات علاقة كالتأويل والاجتهاد، ويقدّم المؤلّف دراسة معاصرة لعملية الاجتهاد في نصوص التنزيل الحكيم، انطلاقاً من نسخ كل الاجتهادات الإنسانية السابقة في تفصيل المحكم من هذه النصوص، وإعادة الاجتهاد فيه بروح معاصرة، بعيداً عن القراءة التراثية الأحادية الملزمة وراثياً. تلك القراءة التي أوقفت التاريخ وصيرورته عند لحظة معينة، ما جعل الثقافة العربية الإسلامية هشة ضعيفة يستحيل صمودها أمام ثقافات الدول الأخرى المتطورة إلا بممارسة العنف، من خلال قطع الرؤوس والرجم والجلد، لإثبات وجودها.
ستظل المكتبة العربية والعالمية تزدهي بهذه الجواهر الفكرية من مفكر إسلامي إنساني لا يحيس نفسه في غرفة القديم ولا يهرول في شارع العصر الحديث، وستظل تتجادل مع الأجيال الجديدة، وتتجاوز هؤلاء المتجمدة قلوبهم.
رحم الله العالم الجليل الدكتور محمد شحرور وتقبل الله منه صالح أعماله، ونفع الأمة بعلمه وفكره وقلمه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *