عشيّة ذكرى اندلاع الحرب الأهليّة اللّبنانيّة الّتي تعتبر من أعنف الحروب الأهليّة في العالم، والّتي حوّلت لبنان إلى فوهة قبر لم تعد تتّسع ظلمته لأرواح سُفكت بلا سبب. ها إنّ طيف سنة ألف وتسعماية وأربع وسبعين يلُوح لنا اليوم من جديد، لا بل يرخي بدهمته علينا وكأنّه ما زال متعطّشاً للدّماء.
ولعلّ كلمة “ذكرى” غير صائبة لأنّ الحرب لم تنته بعد وما زالت رواسبها معشّشة في النّفوس، وتستدعي سيولاً من الحقد والغرائزيّة لتعود وترقص من جديد على أجساد تنثر هنا وهناك. فما نعيشه اليوم لا يقلّ خطراً عن الخطر الّذي داهمنا في الثالث عشر من نيسان من تلك السّنة المشؤومة، والّذي لا بدّ من أن نتّخذ فيه اليوم وقفة تأمّلية، نعيد فيها أذهاننا إلى سنين من الاقتتال الأخويّ، ضاعت هباء وأضاعت ملامح بلد ما زال يقاوم بقلّة قليلة مخالب الطّائفيّة والزّعامات السّياسيّة.
ويبدو أنّنا لم نتعلّم كفاية من ذلك الاقتتال الأخويّ المقيت بعد تسعة وثلاثين عاماً، والّذي لم يؤدِّ إلّا لمزيد من الحقد والكراهية والجهل، ولم يتبيّن لنا بعدُ أنّنا ما زلنا قبائل منغلقة على بعضها تخاف الواحدة من الأخرى. كما وأنّنا لم نتعلّم بعد مفهوم المواطنة والقوميّة، وذلك لأنّ انتماؤنا الأول ما زال للزّعيم أو للطّائفة.
نحن نحب لبنان في خيالنا وفي انفعالاتنا الغرائزيّة وفي صورة زعيم ولون علم حزبيّ، وفي مجد اخترعناه في أذهاننا لنتنصّل من المسؤوليّة تجاه وطننا. ولا نحبّ لبنان وطناً حقيقيّاً يعيش فيه الكلّ تحت راية المحبّة والسّلام. ولا نحبّه لأنّنا ما زلنا نتقاتل فكريّاً على ماضٍ سحيق يحمّل فيه الواحد للآخر مسؤوليّة ما حصل، بدل أن ننطلق إلى الأمام ونتعلّم من الماضي كيف أنّنا كنّا أشباه بشر ينادون بقضيّة وهميّة ويسفكون دم بعضهم بعضاً. ولا نحبّ لبنان لأنّنا نربّي جيلاً جديداً على أنّ الزعيم هو المخلّص وهو صورة الوطن بدل أن نعلّمهم أنّنا نحن من نصنع الزّعيم ونحوّله إلى إله نعبده ونجترّ كلامه أيّاً كان، ونكرّس له دماءنا وأرواحنا وجهلنا. فما من زعيم يتألّه إلّا على حساب عقول جاهلة.
الثالث عشر من نيسان، ما زال محفوراً في قلوب أمّهات فقدت فلذات أكبادها في ساحات شرّعت أبوابها للإخوة كي يقتل بعضهم بعضاً. إخوة تقاتلوا لأنّه وُجد من يقنعهم أنّ أخاك هو عدوّك، فاقتله كي يبقى لبنان!! إخوة تناحروا وتصارعوا على وطن يتّسع للجميع ويحتوي الجميع.
الثّالث عشر من نيسان، حاضر اليوم في لبنان بتطرّفه البشع وسلاحه المدمّر للعقول والنّفوس، وبهمجيّة الفكر الطّائفيّ والمذهبيّ، ولكم نحن بحاجة إلى محبّة حقيقيّة لنردعه ونقتله قبل أن يبتلعنا مجدّداً. ولكم نحن بحاجة إلى عقول جريئة مقاومة تصرخ بكلّ قوّتها ضدّ الطّائفيّة والزّعامات السّياسيّة، وتتخلّى عنها وعن سياساتها الكاذبة الّتي لا تصبّ إلّا في مصلحتها الشّخصيّة، وفي مصلحة العدوّ الحقيقيّ، علموا ذلك أم لم يعلموا. فخدمة العدوّ لا تكون بالتّعامل معه فقط، بل تبدأ خدمة العدوّ في اللّحظة الّتي نعتبر فيها أخانا في الوطن عدوّاً فنكفّره ونستبعده وتجتمع أعضاء القبيلة على قتله، وتستدعي قوى خارجيّة لتساندها!!
أخي اللّبنانيّ، أيّاً كان اسمه، أو طائفته، أو مذهبه، أو فكره، أهمّ وأثمن بكثير من سياسات مقيتة تدفع اللبنانيّين مجدّداً للدّخول في لعبة القتل والاستمتاع بنشوة الانتصار الكاذب. وهو أهمّ وأثمن من أيّ متعجرف يعتلي المناصب ليعلّمنا مفاهيم الكرامة والوطنيّة في حين أنّه لا يعرف من الوطنيّة إلّا ما تمليه عليه ذهنيّته القبليّة والطّائفيّة.
لنثبت حبّنا للبنان، علينا أن نقف اليوم كإخوة حقيقيّين في العائلة الواحدة، متخلّين عن فكرنا الطّائفيّ والعنصريّ، ومؤمنين بأنّ الوطن للجميع وفوق الجميع.
هي خطوة واحدة نحو المحبّة الحقيقيّة الّتي تشكّل الرّابط الأساسيّ بين الإخوة، والسّلاح الأقوى في وجه عدوّ لا يشبع من دمائنا ولا يقوى إلّا بنزاعاتنا وصراعاتنا. خطوة واحدة نحو المحبّة نحترم فيها الآخر لأنّه لبنانيّ أوّلاً، ولأنّه من حقّ الأخ على أخيه أن يحتويه ويحبّه ويدافع عنه بل ويموت في سبيله.
ليكن يوم الثّالث عشر من نيسان، يوم صلاة على روح كلّ الشّهداء الّتي سالت دماؤهم من عيون أمّهاتهم، وعلى روح كلّ شهيد عرف العدوّ الحقيقيّ فاستعدّ وما زال مستعدّاً ليبذل الغالي والرّخيص في سبيل الوطن.
ليكن يوم صلاة من أجل كلّ مفقود ومعتقل ما لبثت أمّه تمدّ يديها لتحتضنه حيّاً أو ميتاً، فيرتاح قلبها وتخمد نار اضطرابها.
ليكن يوم محبّة نقدّم فيه الولاء للبنان وللبنان فقط، حتّى إذا ما داهمنا الشّرّ نكون مستعدّين أبداً لأن ننجو من مخالبه وحتّى إذا ما سألنا يوماً لبنان عن ترابه، مددنا يدنا إلى قلوبنا وقلنا له: “ترابك في القلب والدّم، في النّفَس والفكر، وفي سواعد أفراد عاشوا بطولة المحبّة ليبقى ترابك ذهب الزّمان”.