كان أبو علي في السبعين من عمره ، ولكنه كان ما يزال نشيطاً وصاحب همةٍ عالية . يغدو كل يوم مع طلوع الفجر إلى العمل في الحقل ، يقِشُّ اليباس ويروي الخضار ، ويُشذّب الأشجار ، ويعتني بأرضه عناية مفرطة ، جعلتها مُهجةً للناظرين إليها . ويعود كل يوم بسلالٍ مليئة بأشهى الثمار
كانت كل حقول القرية جميلة ، وتلقى العناية الكافية . لكن إذا رأيت حقلاً مميزاً ، فاعلم أنه لأبي علي ، فهو لا يُهمل أدقّ التفاصيل . فالأشجار متراصفة كصفوف العسكر ، وأغصان الأشجار اليابسة يقطعها ويصنع منها سياجاً ، وسقالات لدوالي العنب المتعدد الأنواع . وحتى الثياب القديمة لها مكانها ، فهي رداء (الشرشوح) الذي نصبه لإخافة الطيور والثعالب ، وما تبقّى جعله رِباطاً لتثبيت الدوالي والسقالات الخشبية .
كل يوم من أيام الصيف ، كان أبوعلي يعود إلى بيته ، فيغتسل ثم يفتح صندوقه الصغير المرصّع بالنحاس والمليء بأغراضه الثمينة . وكم كان فضولي كبيراً لمعرفة محتوياته.
فهنا تجد مرآة صغيرة ، وهناك بعض الكتب والقصص ، وساعة الجيب الفضّية ، وعلبة صغيرة يضع فيها بعض النقود ، وإلى جانبها بعض أدوات الحلاقة ، وقنينة العطر ، ولا يخلو الصندوق طبعاً من بعض حبات الحلوى اللذيذة ، التي طالما حصلنا على بعضها كمكافأة لنا ، على قضاء حاجة صغيرة له ، كتعبئة إبريق الماء أو ما شابه .
وكم كنّا نفرح ، عندما يُخرِج أبو علي كتاباً من صندوقه ، ليقرأ لنا بعض ما فيه ، ونحن نتحلق حول الموقد في ليالي الشتاء الباردة ، التي تفرض على أهل القرية أن يقبعوا في منازلهم ، فللطّبيعة قانونها وعُطلتها القسرية في هذه الجبال .
وكم كانت جميلة حكايات البطولة ، والفروسية ، والعنفوان ، في تلك القصص القديمة . وحتى حكايات الحب ، لا تغيب في صليل السيوف ، ولا تُعيبُ أبطالها أو تُضعِفهم ، ولا تخبو تحت قرقعة حوافر الخيل ، فتجد عنتر يتذكّر حبيبته في خِضمّ المعركة ويقول :
ولقد ذكرتُكِ والرِّماحُ نواهلٌ
مِنّي وبِيضُ الهندِ تقطرُ من دمي
فَوَدَدتُ تقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها
لَمَعَت كبَارقِ ثغرِكِ المُتَبَسِّمِ
أمّا في الصيف ، فكان أبو علي يختار أفضل ثمار التين والعنب ، ويُضيف إليها ما تيسّر من الخضار والفاكهة المتوافرة لديه . ويركب على حماره ، ويذهب بنفسه ، أو يُرسلها مع أحدِ أولاده ، إلى شقيقه في قرية مجاورة . وعندما تسأله إلى أين ؟ يقول لك : لنا بيتٌ وعندي أخٌ في قرية (كذا) ، سأذهب لرؤيته .
لكن ما كان يُحيّرني هو كثرة أشِقّاء أبي علي !!!!! وكثرة بيوته في تلك القُرى !!!ولماذ إخوته لا يسكنون في قريتنا ؟ فهو لديه أخ في كل قرية ؛ في ميمس ، والكفير ، وعين عطا ، وبيت لهيا ، وراشيا ، وكذلك نزولاً في شبعا ، وشويّا ، وعين قنيا ، وحاصبيا ، والفرديس ، وفي كل قرية من قُرى وادي التيم تقريباً . وهو لا ينسى أيَّ واحد منهم ، ويُنصفهم جميعاً ، ويُرسل لهم أفضل غلّة كرومه . وصحيح أن عائلات القرية بغالبيتها كبيرة ، لكن عائلته هي الأكبر . وكم كنت أتمنى أن يكون لي عشرون أخاً مثل ما لأبي علي من أخوة .
توفي أبو علي عن عمرٍ يُناهز الثمانين . وجاء كُلُ إخوته مع أبنائهم وأحفادهم إلى القرية ، وكنت لأول مرة أراهم جميعاً . فهذا جرجس ، ودانيال ، وذاك احمد ، وأبو عمر ، وسليمان ، ومحمد ، وأسماء كثيرة كان يرددها أبو علي على مسامعنا .
لكن مفاجأتي الكُبرى كانت ، عندما علمت أنّ أبا علي كان وحيداً ، ولديه شقيقة واحدة فقط ، وهؤلاء جميعاً كانوا أصدقاءه الذين أحبهم وأحبوه كإخوة . وكانوا يقولون جميعاً : أخي فلان، إنها الصداقة الصادِقة الحقّة ، ورُب أخٍ لم تلده أمك .
فهل من شيء في الحياة أجمل من هذه المشاعر السامية؟
ألف تحية إلى كل أصدقائي، الإخوة الأعزاء الذين أكرمنا الله وإياكم بنعمة المحبة والصداقة والأخوة .
وعسى أن يكون لكم جميعاً في كل مطرحٍ أو قرية أخٌ وبيت .