لم تعد أزمة السد الأثيوبي (سد النهضة), هي المادة الخبرية الأهم والأكثر متابعة ودراسة وتحليلا بين الكتاب والمتخصصين والخبراء, أو حتي المواطن العادي الذي بات مهموما بما ستؤل اليه الأمور, بل تجاذبها نشطاء السوشيال ميديا و مواقع التواصل الاجتماعي, فمنهم من يطالب باعلان الحرب ومنهم من وضع سيناريوهاتها, ناهيك عن القنوات الموجهة والمعادية التي استغلت الأزمة لبث سمومها وخلق رأي عام مناهض لسياسات الدولة المصرية و زعزعة الاستقرار.
وهنا لابد أن يدرك الجميع أن أزمة ملف السد الأثيوبي, باتت تتطلب اصطفافا حقيقيا خلف القيادة السياسية, والوثوق في قدرتها علي ادارة هذا الملف الشائك والخطير, فالقضية لم تعد مجرد خلاف بين المتعجرف الأثيوبي و دولتي المصب مصر والسودان, بل انتقل ليكون ملفا سياسيا بامتياز, تتجازبه القوي الكبري لتحقيق مصالحها ومأربها في المنطقة.
وهنا لابد أن نشير الي أن الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي, وتربع أمريكا منفردة بنفوذها وسيطرتها علي القرار الدولي, تحولت عقب ما سمي بثورات الربيع العربي وما خلفته من أزمات وكوارث بالمنطقة الي ما يشبه الصراع الخفي لتقاسم التورتة والهيمنة علي مقدرات و ثروات منطقة الشرق الأوسط, ولم يكن بعيدا عن هذا المشهد ذلكم التنين الصيني الذي بات صداعا مزمنا لدي دوائر صناع القرار في مؤسسات السياسة الأمريكية لما يمثله من تهديد حقيقي للهيمنة والسيطرة الأمريكية. فالصين التي تسسللت ببطيء وظن الجميع أنها مجرد ساحة لاستنساخ وتقليد المنتجات الأمريكية والأوروبية, تحولت الي غول اقتصادي يصعب السيطرة عليه, وباتت فاعل وشريك لا يمكن تجاهله في النظام العالمي الجديد الذي بدأ يتشكل عقب جائحة كورونا, لسنا هنا بصدد تحليل متفيراته وتحالفاته, ولكن ما يهمنا هو أن روسيا أدركت أنها لن تتمكن من مواجهة الأمريكان منفردة, فقررت أن تقيم تحالف غير معلن يقوم علي المصالح المشتركة مع التنين الصيني, لتتكامل قوتها العسكرية مع قوة التنين الاقتصادية.
وكانت أزمة “سد النهضة” فرصة سياسية لا يمكن تفويتها لهذا التحالف الروسي الصيني, ان لم يكن هم من صنعوها لتحقيق مصالحهم المشتركة, وهنا لابد من الاشارة الي أن هذا لا يعد عمل عدائي يستهدف الدولة المصرية, فالسياسة ليس فيها عدو دائم ولا صديق دائم, لكنه عالم تحكمه المصالح المشتركة, وفعلياً، فإنّ روسيا ستحقق استفادة كبيرة بدعمها إثيُوبيا، حيث يسمح لها ذلك بترسيخ وجودها وتوغلها أكثر في إفريقيا, وما التعاون العسكري الذي أعلن عن تفاصيله أمس مع أديس أبابا سوى إشارة إلى المخطط الروسي للسيطرة المطلقة على مجمل الدول الإفريقية, وليس هذا الأمر بجديد فإن موسكو ترسخ وجودها في إفريقيا على نحو متنامي من خلال توقيع العديد من الاتفاقيات العسكرية بينها وبين الدول الافريقية، مثل الجزائر وتونس وليبيا والنيجر والسودان ونيجيريا, الي جانب بعض التقارير التي تشير الي نشر المرتزقة التابعين لها في ليبيا والسودان.
أما الصين فلديها مخططات واسترتيجيات للتوسع في قلب افريقيا اقتصاديا و عسكريا, لكنها تتبع سياسة مختلفة يمكن تسميتها بـ”الاستعمار الاقتصادي”, من خلال اعراق الدول الافريقية بالديون, للتحكم مستقبلا بمصائرها وقراراتها, فإنّ نسبة كبيرة من الديون الاثيوبية الخارجية مستحقة للصين. وتشير الأرقام، الي أن إثيوبيا هي ثاني دولة افريقية بعد أنجولا من حيث ديونها المستحقة للصين, والتي تتخطي إلـ 14 مليار دولار.
أما أمريكا فهي مشغولة بمحاولة اعاقة تغول التنين الصيني من خلال التحالف مع جيرانه من النمور الأسيوية, التي تمتلك زمام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي, الذي منح الصين فرص الانطلاق, فالصين تستعد لاطلاق الجيل السادس الـ”G6″ الذي سيؤلها ليس فقط للسيطرة علي الكرة الأرضية, بل للسيطرة علي الفضاء. لكن مصالح أمريكا في المنطقة ستجعلها تدعم الموقف المصري في أزمة ملف السد الاثيوبي.
وهنا لابد أن ندرك جميعا خطورة القرار الذي أثق أن القيادة السياسية تدرك تماما أنه المحك والاختبار الأصعب في تاريخ مصر, ويتخطي في خطورته قرار “تأميم القناة” وقرار “حرب أكتوبر”, ولذلك فان الدبلوماسية المصرية الهادئة تخوض الجولة تلو الأخري اقليميا و دوليا لدعم الحقوق العادلة لمصر والسودان في الحياة, معلنة أنها تخوض معركة وجود لا معركة حدود, فالنيل هو شريان الحياة النابض لشعبي مصر والسودان, ومصر قادرة من خلال ما أنجزته داخليا وما حققته خارجيا من علاقات وتحالفات اقليمية ودولية, ومن خلال استعادة قدراتها السياسية والعسكرية كقوة اقليمية لا يمكن تجاهلها, أن تدير هذا الملف بحكمة وحنكة مع جميع الأطراف ولديها السيناريوهات المختلفة التي تستطيع من خلالها العبور بسغينة الوطن وسط هذه الأمواج المتلاطمة والرياح العاتية الي بر الأمان باذن الله…