كثيرون يرحلون فينتهي ذكرهم وقليلون تبقى ذكراهم بين الناس طويلاً لعلمهم النافع وتأثيرهم الواضح والمحبة التى صنعوها بين الناس والمكانة التى حجزوها فى القلوب، فمهما مر الزمان لا تنسى كلماتهم ولا تمحى عظاتهم بل تظل كالذهب الخالص، تزداد بريقاً يوماً بعد الاخر، والدكتورة عبلة الكحلاوى واحدة من هؤلاء الذين لم ينطفئ نور علمهم برحيلهم، بل بقى مضيئاً منيراً للكثيرين، لا يأتى ذكرها فى مجلس الا وتسمع الثناء عليها وترى علامات المحبة لها باقية بين الجميع، لا ينسون بشاشتها وبساطتها وطيبتها وحسن حديثها ورقة نصائحها، فلم تكن عالمة متحذلقة، ولا داعية متكلفة، أو فظة العبارة، بل إنسانة تدرك أن العلم للهداية وليس للمزايدة، والدين لنفع الناس وليس لتهديدهم وتخويفهم ووعيدهم، كان مبدأها بشروا ولا تنفروا، وقناعتها أن العلماء ورثة الانبياء ومن ملك العلم فعليه أولاً أن يتخلق بخلق الانبياء من تواضع النفس وأدب الحديث وصالح الأعمال ، كان أسلوبها واصل إلى كل الفئات لا فارق بين فلاح بسيط ومثقف ومتفقه، صدقت النية فسكنت القلوب، عشقت وطنها فلم تبع نفسها لجماعة ولم ترهن علمها لايدلوجية بل سخرته لخدمة الناس والدفاع عن مصر وترابها ونفع شبابها ومواجهة كل ما يحيط بهم من رزائل وما يتهددهم من أفكار متطرفة وفتن وجماعات تتدثر بالدين كذباً وتخدع الناس بشعارات وهمية وهم فى الحقيقة لا يريدون سوى مصالح سياسية ومكاسب ضيقة على مقاسهم.
من حبها لوطنها كان حرصها الدائم على المساهمة ودعم البسطاء والغلابة والمساكين من أبناء هذا الشعب الطيب فقررت أن تنشىء هي وزوجها الراحل جمعية الباقيات الصالحات، مشروع كان حلمها مع زوجها وهما يعملان سوياً في المملكة العربية السعودية وقررا العودة إلى مصر من أجل تحقيقه، أخذ منهما كل ما يملكانه من تحويشة العمر، قالت لي يوماً أنها قررت أن تتفرغ لهذا الحلم الذي يخدم البسطاء والمرضى من كبار السن ومرضى الزهايمر والأطفال اليتامى وبالفعل
بفضل اخلاصها فى هذا العمل الخيري أصبح سريعاً واحدة من علامات المقطم لفخامة المبني وقيمة المعنى الذى يجسده والعنصر البشري الذي انتقته الدكتورة عبلة بكفاءة عالية وانسانيه تتطلبها طبيعة هذه الموسسة التى مازالت تؤدي رسالتها على أكمل وجه كما تمنتها العالمة الفاضلة، وحتى بعد رحيلها يقف على نجاح هذه المؤسسة نجلتيها د. مروة ودكتورة ردينه اللذان أخذا منها حب الناس ومساعدة المحتاجين وقررا العمل ليل نهار من أجل أن تواصل المؤسسة دورها .
كانت تربطني بالراحلة د. عبلة الكحلاوي علاقة من نوع خاص، كنت دائم التواصل معها لأنهل من علمها واستمع إلى دعواتها ورغم رحيلها ما زلت احتفظ على هاتفى بعدد كبير من تلك الدعوات ونصائحها وامنياتها وتشجيعها الدائم لكل عمل أو نشاط وأفخر بقربي منها، وأتذكر جيداً مكالمتها لي فور وفاة أمي وكيف كانت حليمة ورحيمة ولن أنسى كلماتها التى منحتنى قوة فى المحنة ودعواتها لإمي بعد وفاتها التى استمع اليها بين الحين والآخر فكان صوتها يبعث إلى بالطمانينة والراحة وكانت تنزعج بشده لأي حادث يتعرض له أي مواطن مهما كان فكانت عالمة تقدم العلاقة الانسانية على المصلحة.
هذه هي العظيمة الراحلة عبلة الكحلاوي التى تعلمنا منها الانتماء الحقيقي وتواضع العلماء وجبر خواطر البسطاء ومساعدة كل من يريد المساعدة لنعرف بحق علماؤنا الأولياء ولذلك فعندما انتقلت الى رحمة الله كتبت على صفحتى الشخصية في الفيس بوك اليوم “ماتت أمي الثانية”.. لأنى بحق كنت اعتبرها كذلك.