تمضي الأيام وتتجدد الذكريات، وفى مثل هذه المناسبات يختلط الخاص والعام، وعبثا يحاول الإنسان الفصل بينهما، حيث يلج العقل في التناول الموضوعي في الإطار العام، بينما يكون الوجدان أكثر إلحاحا في استعادة الذكريات؛ وبصفة عامة فإن تجربتي برفقة أستاذي الدكتور يونان لبيب رزق في مركز تاريخ الأهرام، والصفحة الأسبوعية “الأهرام ديوان الحياة المعاصرة”؛ أعتز بها عمري ما حييت؛ (أنا ود.ماجدة حمود – ثم انضم بعد سنوات لإعارتي- أ.د.حمادة إسماعيل؛ود.آمنة حجازي)، وتُعد حالة غير مسبوقة في أية صحيفة سواء كانت محلية أو عربية أو حتى عالمية؛ والتجربة برمتها احتوت على مئات وإن شئت قلت آلاف الموضوعات التي حفلت بها الأهرام في مختلف المجالات.
أما اختيارنا مُسمي الصفحة فقد تم اقتباسه من مقولة عميد الأدب العربي د.طه حسين في تقديمه كتاب د.إبراهيم عبده (الأهرام في خمسة وسبعين عاما)، وقد دارت مناقشاتنا حول سر اختيار العميد لهذا الاسم وعما إذا كان آملا أن تكون الأهرام بدلالتها الثقافية والسياسية على غرار ديوان الإنشاء عند العرب، أو أن الديوان بدلالته الاجتماعية هو المكان الذي تحدث فيه المسامرات والأحاديث، أو أن الديوان بدلالته السياسية المركز الذي تدار منه شئون الدولة، وحين يوصف الأهرام هذا الديوان بالحياة المعاصرة، فهو يُضفي عليها سمات الحيوية المقترنة بالحياة ومختلف ظروفها المعاصرة، وليس سرا أنى جادلت أستاذنا في اسم الصفحة، وأن يكون عنوانها مفتوحا بصورة عامة وأكثر شمولا وليس مقتصرا على المعاصرة، فكان اقتراحي أن يكون عنوان الصفحة (الأهرام ديوان الحياة) أي الحياة وشمولها بصفة عامة؛ قديمها ووسيطها وحديثها ومعاصرها وما بعد الحداثة والمعاصرة في مسيرتها المستقبلية؛ ولكنه تمسك بمقولة العميد، نوعا من الأمانة العلمية، وكان علينا احترام رأيه، ليظل العنوان على لسان استأذنا، مترددا على صفحات الأهرام من خلال مركزها.
والأهرام وإن كان تأسيسها في الخامس من أغسطس 1876 أواخر القرن التاسع عشر فقد عبرته والقرن العشرين أيضا وصولا إلى القرن الحادي والعشرين، وفى هذه المسيرة كانت صفحاتها شاهدا على زوال خديويات وملكيات وقيام جمهوريات، وحروب عالمية وإقليمية وانكسارات وانتصارات واندحار الاستعمار وبروز حركات الاستقلال، ووجدت كل هذه الموضوعات وسواها طريقها في حلقات الديوان؛ فقد تم إصدارها في عهد الخديوي إسماعيل الذي تم عزله بعد ثلاث سنوات من صدورها، واحتل الإنجليز مصر، وشهدت الثورات العرابية وثورة 1919 و23 يوليو 1952، و2011- 2013م، وزوال الخديوية والملكية وقيام الجمهورية، وزوال حكم الإخوان؛ وعاصرت النقلة الجديدة فيما بعد 30 يونيه، مثلما شهدت حروبا محلية وإقليمية وعالمية، وفيما بعد حربين عالميتين، جاء انكسارات وانتصارات منذ 1948 إلى انتصار أكتوبر العظيم 1973، والشئ ذاته بالنسبة لقيام حكومات وزوال أخري عربيا وإقليميا وعالميا، وهلم جرا، وأحداث كادت تعصف بها مثلما عصفت بصحف أخري. ولكن استمرت الأهرام عابرة القرون والعهود.وهاهي الأهرام مستمرة إلى ما شاء الله.
وقد أحدثت الصفحة الأسبوعية نقلة نوعية في التحرير واكتسبت شعبية جارفة، كانت تتبدي من رسائل آلاف القراء، التي كنا نفرد لبعضها حلقات بين الحين والآخر؛ كما أن كتابتها لم تكن مألوفة منهجيا في الكتابة في السياق الأكاديمي سواء كانت تاريخية أو إعلامية؛ فإن منهجية البحث في الكتابة التاريخية لها قيودها وتربط التاريخ بالوثائق حد القول “لا تاريخ بلا وثائق” وبالتالي تضع الوثائق وخاصة غير المنشورة في المرتبة المصدرية الأعلى، بينما تأتى الصحف في مرتبة تالية شأن المراجع، وعلى العكس من هذا فإن منهجية البحوث والدراسات الإعلامية تعتبر الصحف مصادرها الأساسية، تليها المرجعيات الأخرى.
وهنا تبرز أهمية وخصوصية تجربة ديوان الحياة المعاصرة وتفردها سواء على صعيد الكتابة وفق المنهجية التاريخية أو الإعلامية، فهي مزيج بينهما فيما يُمكن اعتباره حالة من التجريب، على غرار ما يتم استحداثه من تجريب إبداعي في الفنون والآداب؛ حيث تُعتبر هذه التجربة حالة من الإبداع في الكتابة التاريخية والإعلامية أيضا.
ومن المفارقات أن بعض المؤرخين لم يتقبل هذه المنهجية بسهولة في البداية واعتبرها تبسيطا واستهانة بالمنهجية التاريخية، وشرع يهاجم التجربة، وشيئا فشيئا تيقن له أن ما يحدث هو حالة غير مسبوقة تحتم تبسيط الكتابة الأكاديمية للقارئ العام بدون تقعر فى المنهجية التقليدية، وإنما استفادة بالمعطيات وكافة الأدوات المتاحة بما فيها الصورة والإعلانات والسياقات الإبداعية والروايات والمشاهدات وغيرها، جنبا إلى جنب مع الخبر والرأي والرؤية والتحليل سواء كانت بالاتفاق أو التحفظ أو الاختلاف؛ وفى كل هذا ليس تفضيلا وانحيازا لجانب على آخر؛ وإنما مزجا في السياق التاريخي بين المعالجة الإعلامية والعلمية في إطار علمي متوازن، الأمر الذي يجعلنا نقول إنها كانت حالة من التجريب غير المسبوق في الحالتين معا، فقد تم المزج بين الأهرام (باعتبارها مصدرا) جنبا إلى جنب مع الوثائق غير المنشورة والمراجع الأخرى سواء كانت باللغة العربية أو الأجنبية، لنقدم في النهاية وجبة علمية دسمة في سياق إعلامي يسير الفهم والهضم.
ولأن سياسة الأهرام التحريرية اتسمت بقدر كبير من المحافظة، فهذا اكسبها نوع من الوسطية والاعتدال في أرائها، وهو ما أكسبها نوعا من المصداقية؛ من ثم جنّبها التصنيفات الأيدلوجية والصدامات الحادة مع الأنظمة، فلم تجنح صوب المحتلين الإنجليز بمثل ما كانت عليه جريدة المقطم مثلا؛ رغم أن مؤسسي كلا الصحيفتين من الشوام، ولم تكن متشيعة للعثمانيين (المحتلين أيضا) بمثل ما بدت عليه جريدة المؤيد؛ وبدرجة نسبية جريدة اللواء؛ ولم تكن أبدا صحيفة حزبية بمثل ما كانت عليه صُحف الأحزاب في الحقبة الليبرالية، ولا يُمكن تصنيفها أيدلوجيا بأنها صحيفة اليمين أو اليسار، فقد التزمت غالبية سنواتها بالحفاظ على مسافة من أولئك وهؤلاء، اتسمت بالحفاظ على مساحة من الخصوصية أو الاستقلالية إلى حد كبير.
وبقدر ما أعطت الأهرام لنا.. بقدر ما حاولنا أن نُعطي لها، حتى أصبحنا أهراميي الهوى، فالعلاقة بيننا والأهرام كانت – ولا زالت – تفاعلية عقلا ووجدانا؛ وانعكس هذا على تلك التجربة الفريدة من نوعها في الصحافة أيا كانت مصرية أو عربية أو عالمية، فلأول مرة يتم استقراء وتتبع التاريخ بتفصيلاته وأحداثه وظروفه ونتائجه ومعطياته ونتائجه وآثاره من خلال صحيفة سيارة وكونها منبعا ومصدرا معرفيا؛ كانت تحوى الخبر من كل أرجاء الدنيا، ومعه تورد الرأي والرؤية والتعقيب والتحليل؛ ومن ثم مثلت لنا بحرا نغترف منه ما نريد لما نشاء، أي نعم كان يتحكم فينا الكم والكيف وأهمية المحتوي وقيمته وقدره، وكنا في أحيان كثيرة نتمثل أنفسنا قراء، وهذا التناغم كان يحرص عليه أستاذنا فنحن كنا قراء المقال أولا قبل الدفع به إلى المطبعة، وفيما يُشبه السيمنار أسبوعيا.
ولأن الأهرام حدث له هذا التفرد في التاريخ والعراقة، من ثم فقد أسبغت هذه العراقة حالة من المكانة علي من يرد اسمه فيها؛ وأصبحت هذه العلاقة عضوية متوازية متلازمة بينها وبين صحفييها ومراسليها وكتابها ومحرريها؛ في إطار القياس التبادلي بينهما، فليس كل من هب ودب ينشر له الأهرام؛ وفى نفس الوقت يكتسب من ينشر له الأهرام جواز مرور في عالم الصحافة، ويُمثل ورود اسمه في الأهرام نقلة نوعية إلى عالم الأضواء، وكثير من الأسماء أضفت عليهم الأهرام شهرة واسعة، وليس أدل على ذلك من بعض الكتاب فقد كان الأستاذ محمد حسنين هيكل مثلا معروفا، ومن أكثر الصحفيين والكتاب العرب احتكاكا بمختلف أنظمة وحكومات العالم، ومع ذلك فالشهرة الواسعة اكتسبها من خلال الأهرام، مع الإشارة إلى وجود صحف أخرى اقتربت من مكانتها ولكن لم يتحقق لها نفس القدر من المكانة نتيجة تعطيلها أو عدم إستمراريتها؛ وإن من نوادر الأهرام أن الوفيات أيضا كان لها حظ من الشهرة، لدرجة القول ” لم يمت من لم ينشر نعيه في ألأهرام”
وعامة فإذا كانت الأهرام قد أخذت اسمها من الأثر الخالد الأهرامات، وربما جال بفكر مؤسسيها حالة من الإلهام والِبشْر والتفاؤل بخلودها على غرار الأهرامات، أو أن يُضفي هذا الاسم عليها خصوصية مصريتها وتمصيرها وخاصة أن أصحابها كانوا من الشوام، أو أن الاسم دلالة على استلهام إشعاع إعلامي ينتشر في ربوع العالم ويُكسبها الخلود، بمثل خلود الأهرامات وما تنشره من عبق الحضارة؛ فقد راودتنا الأماني مع القائمين على رئاسة الأهرام – آنئذ- إدارة وتحريرا، أن يُصبح مركز تاريخ الأهرام قلعة علمية تُضاف لمؤسسة الأهرام؛ على غرار مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، وتم التخطيط لتنفيذ عديد من المشروعات العلمية والإعلامية، وكانت الصفحة الأسبوعية ” الأهرام ديوان الحياة المعاصرة” أحد مشروعاته؛ ومضت المسيرة إلى أن توقفت برحيل أستاذنا، وبقدر سعادتي بالتجربة بقدر حزني أنها توقفت، وعبثا ضاعت محاولة إحياؤها؛ خاصة في ضوء الظروف التي مّر بها الوطن في العقد الأخير ولم تكن الأهرام بعيدة عن تلك الظروف؛ ولكن الأمل مع حدوث الاستقرار أن تعود الأمور ثانية إلى سيرتها الأولى أكثر ازدهارا..