عندما يصف هنرى كيسنجر، شيخ الدبلوماسية الأمريكية، ما حصل فى أفغانستان بأنه «انتكاسة أمريكية طوعية» فإنه يكشف بذلك عن معضلتين أمريكيتين كبيرتين سيكون لهما تأثير ممتد على المستقبل الأمريكى، وبالذات على مكانة الولايات المتحدة الأمريكية فى الزعامة العالمية. المعضلة الأولى أن الفكر الاستراتيجى الأمريكى يعانى ارتباكاً أو اضطراباً غير مسبوق، تراجع فيه التوحد الأمريكى حول سؤال: ماذا تريد الولايات المتحدة أن تفعل؟ وكيف؟ فالأمريكيون غير منقسمين فقط على قرار الانسحاب الأمريكى، لأن الانسحاب أمره معروف منذ توقيع إدارة دونالد ترامب على اتفاق الدوحة مع حركة «طالبان» فى 29 فبراير 2020، لكنهم منقسمون بالأساس على همجية الترتيبات الأمريكية لمتطلبات ما بعد الانسحاب، التى أدت إلى سقوط الحكم الموالى فى كابول وتبعثر قواته العسكرية التى كان يراهن جو بايدن على قدراتها فى حماية النظام ودحر طموحات «طالبان» فى التفرد بالسلطة بعد الانسحاب الأمريكى، كما أدت إلى وضع كل ترسانة الأسلحة الأمريكية فى أفغانستان تحت يد حركة «طالبان». الأمريكيون منقسمون بالأساس الآن حول هل خيار الانكماش فى السياسة الخارجية أضحى قدراً مفروضاً على الأمريكيين بما يعنيه ذلك من خذلان غير مسبوق لكل الحلفاء ليس فقط حلفاء الجوار الآسيوى لأفغانستان أمام المنافسين الأقوياء الطامحين للسيطرة على الإرث الأمريكى بل أيضاً فى أوروبا، وهو الأخطر، وهو الذى حرص هنرى كيسنجر على الإشارة إليه فى مقاله الذى نشره فى مجلة «الايكونوميست» البريطانية المعضلة الثانية التى يكشف عنها وصف هنرى كيسنجر لما حدث فى أفغانستان بأنه “انتكاسة طوعية أمريكية” هى العجز الأمريكى الفادح عن التحكم فى إدارة الصراع داخل أفغانستان حتى قبل اكتمال الانسحاب، وهذا ما أكده التفجير المباغت الذى قام به تنظيم «داعش» الإرهابى (ولاية خراسان) يوم الخميس الفائت (26/8/2021) بالقرب من أحد بوابات مطار كابول وأدى إلى مقتل ما يقرب من 170 منهم 13 من المارينز الأمريكيين وجرح ما يزيد على المائتين. عودة «داعش» جاءت مباغتة وأسرع من كل ما هو متصور، وفرضت ارتباكاً هائلاً فى الحسابات وردود الفعل الأمريكية. الارتباك الأمريكى إزاء صدمة الهجوم «الداعشى» المباغت تبين فى أول رد فعل أمريكى بشن هجوم يوم السبت الماضى على موقع قيادى لتنظيم «داعش خراسان» شمال غرب أفغانستان استهدف قتل شخصين محددين حسب المؤتمر الصحفى للمتحدث باسم «البنتاجون» فى واشنطن هما: «مخطط وميسِّر» ذلك الهجوم «الداعشى» على مطار كابول. الضربة الأميركية على القائدين جاءت، حسب تصريحات المتحدث باسم البنتاجون عبر طائرة مسيرة أقلعت من أحد الدول الصديقة فى الشرق الأوسط. كان هذا المتحدث شديد الحرص على تكتم كل أخبار تلك الضربة، التى فجرت العشرات من الأسئلة حول حقيقة النوايا الأمريكية وربما حقيقة الوضع والحسابات الأمريكية الجديدة فى أفغانستان. من بين هذه الأسئلة هل فعلاً لم تكن أجهزة الاستخبارات الأمريكية على علم بالهجوم الذى شنه تنظيم “داعش خراسان” (التنظيم الداعشى المحلى فى أفغانستان)؟ وإذا لم تكن فعلاً على علم فكيف جاء رد الفعل الأمريكى السريع والدقيق باغتيال الرجلين المسئولين عن تخطيط وتيسير هذا الهجوم، الذى يكشف قدرة الأمريكيين على تجميع دقائق المعلومات عن ذلك التنظيم؟ ولماذا اكتفى الأمريكيون باغتيال هذين الرجلين فقط ولم يشنوا هجوماً قوياً ضد ذلك التنظيم يكون كفيلاً بالقضاء عليه. السؤال الأخير شديد الأهمية، لأنه يقدم ملامح إجابة للسؤال الصعب حول علاقة الأمريكيين بتنظيم «داعش» فى أفغانستان وفرص توظيفه فى الصراع الأفغانى المنتظر، الذى يعتبره المدافعون عن الانسحاب الأمريكى بأنه «أسوأ هدية» يقدمها الأمريكيون لكل من حركة «طالبان» وللقوى الدولية الطامحة لملء فراغ الانسحاب الأمريكى. هذا السؤال يزداد غموضاً فى ظل معلومتين الأولى تتعلق بالبيان الصادر عن البنتاجون الأمريكى الذى اتهم حركة «طالبان» بإطلاق سراح آلاف السجناء من «داعش» قبل حادثة هجوم مطار كابول ، الثانية هى إدانة حركة «طالبان» للهجوم المضاد الذى شنه الأمريكيون على مواقع «الداعشيين» فى خراسان أفغانستان واعتباره «اعتداء صارخاً على أراض أفغانية». سؤالان يثيران استفسارات حول علاقة «طالبان» بتنظيم «داعش خراسان» هل العلاقة صراعية أم هى علاقة تنسيق وتعاون بقدر ما يثيران استفسارات حول علاقة الأمريكيين بكل من حركة «طالبان» وتنظيم «داعش خراسان» الأفغانى. فالأمريكيون تركوا ترسانة أسلحة هائلة لحركة «طالبان»، بل إنهم نقلوا طائرات من طراز «بلاك هوك» قبل أيام من سقوط نظام كابول الموالى.. هل كان هذا اجراء متعمداً له علاقة بترتيبات الصراعات الأفغانية المستقبلية، كما أنهم، فى الوقت، ذاته مترددون فى تصفية تنظيم «داعش» واكتفوا بـ «ضربة محسوبة» فقط ، هل هذا له أيضاً علاقة بترتيبات تلك الصراعات المنتظرة؟ أسئلة كثيرة ومعقدة فرضتها عودة «داعش» المباغتة سوف تتكشف إجاباتها حتماً فى المستقبل الأفغانى القريب، فى ضوء تطورين أولهما احتمال قيام تنظيم «داعش» بتوجيه ضربة أخرى للأمريكيين قبل اكتمال انسحابهم من أفغانستان، خصوصاً أن الرئيس الأمريكى جو بايدن تحدث عن احتمال حدوث مثل تلك الضربة. وثانيهما حدود رد الفعل الأمريكى المتوقع على هذه الضربة، هل سيظل محدوداً أم يمكن أن يتوسع ضد تنظيم «داعش» بما يقضى عليه داخل أفغانستان. تطوران سوف يكشفان بعض ما يدور فى الخفاء من أحداث، لكن تبقى حسابات الطرف الآخر الدولى والإقليمى ليس فقط المناوئ للأمريكيين بل أيضاً الحلفاء الأوروبيون شديدو الاستياء حالياً من الأمريكيين بسبب انسحابهم الانفرادى دون التشاور وتخليهم عن مسئوليات مشتركة كان الأمريكيون يتولون قيادتها. هذا الاستياء أخذ يضغط على الأوروبيين من أجل البحث عن دور أوروبى مستقبلى على نحو ما عبر جوزيب بوريل وزير خارجية الاتحاد الأوروبى بقوله : «ليس هناك بديل للأوروبيين .. يجب أن ننظم أنفسنا لنواجه العالم كما هو وليس كما نحلم به». مثل هذه الحسابات يمكن أن تفسد على الإدارة الأمريكية كل ترتيباتها الغامضة فى أفغانستان .