يوم نزل اللبنانيون إلى الساحات احتجاجاً على قرار الحكومة وضعَ ضريبة ٦ دولار على خدمة «الواتس اب»، اعتقد الكثيرون أن زمن التغيير بدأ فعلاً، وأننا على أعتاب ثورة وجمهورية جديدة حديثة، فرفعوا شعار «كلن يعني كلن» قاصدين بذلك الطبقة السياسية التي حكمت لبنان بالمحاصصة الطائفية والفساد ونهب المال العام مُنذ عقود.
مرت الأيام وأُجهضت الثورة بعد أن توقف الدعم المالي لبعض محركيها ورموزها، ورغم تفاقم الأزمة المعيشية أضعاف مضاعفة، لم نعد نشهد ولو احتجاجاً خجولاً في كل ساحات لبنان، واختفى رموز الثورة فجأة عن الشاشات.
لا شك أن هناك عدداً كبيراً من اللبنانيين (ونحن منهم) من الذين حلِموا بالتخلّص من النظام الطائفي القائم، الذي جعل المواطنين يتقاتلون على وَهمِ حقوقٍ مذهبية مُختَلَقة، وينحرون الوطن والوطنية على مذبح الطائفية والتفرقة والخصام. لقد حلمنا بدولة عصرية تُضاهي سويسرا والسويد وكندا وغيرها من دول العالم المتحضّر التي لا تُفرّق بين مواطنيها، لا على أسس عرقية ولا دينية أو غير ذلك ، بل إنهم فيها مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، ويخضعون لسيادة القانون ومبادئ العدالة والكفاءة واحترام حقوق الإنسان.
سرعان ما تكشّفت الأمور بوضوح، ففي لبنان ليس الفساد حكراً على السياسيين، ولا هم وحدهم سبب الأزمة والانهيار.
القضاء
عند بدء الأزمة رفض القضاة أي مسّ برواتبهم العالية، ومكتسباتهم الوظيفية من حرس وتسهيلات وصناديق ، وفيما نسمع بعضهم يطالب باستقلالية القضاء، تراه في المقلب الآخر، يبيع المواقف للزعماء والنافذين ، ويُسيّس قرارته ويُجيّرها لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، وأكثر من ذلك، فنادراً ما تجد بينهم مَن يقوم بكامل واجباته، ومَن يدخل إلى قصر العدل سيكتشف حجم الكارثة ؛ إهمال وملفات مكدّسة وفوضى وأوراق مبعثرة ورِشا وملفات تُفتح وتُغلق غب الطلب، وقضاة لا يحضرون إلى مكاتبهم إِلَّا نادراً، وقضايا عالقة أمامهم بالمئات، لم يُبت بها منذ زمن ، وأشخاصاً قابعين في السجون دون محاكمة ولا حكم منذ سنوات.
تنص المادة ١١٣ من قانون أصول المحاكمات الجزائية: إذا كانت الجريمة من نوع الجنحة وكان الحد الأقصى للعقوبة لا يتجاوز الحبس مدة سنتين، وكان المدّعى عليه لبنانياً وله مقام في لبنان، فيُخلى سبيله بحق، بعد انقضاء خمسة أيام على تاريخ توقيفه، شرط ألا يكون قد حكم عليه سابقاً بعقوبة جرم شائن.
فماذ يفعل القضاء اللبناني بهذه المادة من القانون ، وكيف يتجاوزها وينتهك حقوق بعض المواطنين ممن لا حماية سياسية لهم ، فيتم توقيفهم بشكل تعسفي لمدة أسابيع حتى دون أن يستمع إليهم قاضي التحقيق.
كيف سيصطلح بلد قضاءه فاسد وقضاته أول من ينتهك القانون ؟؟؟
الضابطة العدلية
في سابقة خطيرة رفضت قوى الأمن الداخلي تنفيذ مذكرة إحضار صادرة عن المحقق العدلي . الضابطة العدلية التي تأتمر بأمر النيابة العامة أجازت لنفسها التمرّد والتدخل في عمل القضاء، وتقدير ما إذا كانت مذكّرة المحقق العدلي القاضي بيطار صحيحة أم لا ، وعليه قررت عدم التنفيذ، متناسية أن رجال الضابطة العدلية هم مساعدون للنيابة العامة ، وعليهم تنفيذ ما تُكلّفهم وتأمرهم به من مهام وفق المادة ١٠٦ من قانون أصول المحاكمات .
المحامون
المحامون هم الأكثر حماسةً لتحقيق تغيير جذري وإصلاح للنظام اللبناني، وهم طبعاً الأكثر دراية ومعرفة بالقانون، لكن ماذا فعلوا ويفعلون في لبنان ؟
نقيب المحامين في بيروت اعتقد أن النقابة ستُشكّل له بطاقة دخول إلى نادي الوزراء، وراح يوزّع مواقف عنترية دون أن يُقدّم أي مشروع إصلاحي حقيقي، حتى على صعيد نقابة المحامين، بل توّج عمله بإضراب لمدة طويلة، تعطّلت خلالها جلسات القضاء وتأجّل إحقاق الحق، فشكّلت نُصرة للظالم على المظلوم، ومزيداً من تعطيل الإدارة والقضاء المُعطّلان أصلاً، ودون أن تُقدِّم أي شيء إيجابي يُذكر.
هذا ولن أخبركم كيف يبتزّ بعض المحامين، موكّليهم الموقوفين لإخلاء سبيلهم أو للدفاع عنهم.
الأساتذة والموظفون
لا عمل دون أجر ولا أجر دون عمل.
لكن الأساتذة والموظفون الذين لم يداوموا في مراكزهم إِلَّا بشكل خجول منذ عامين، يتقاضون كامل رواتبهم بما فيها بدل النقل . المعلمون في المدارس الخاصة يعملون بدوام كامل ويتقاضون أقل من نصف رواتب اساتذة التعليم الرسمي، وإذا سألتهم عن أسباب فشل التعليم الرسمي بالمقارنة مع التعليم الخاص، سينحون باللائمة على التلامذة والأهل .
صحيح اليوم أن الرواتب تآكلت قيمتها، لكن هذا الأمر استمر لسنوات طويلة قبل تدهور الاوضاع الاقتصادية، ولم يتقدم الأساتذة بأي مشروع لتطوير المناهج والنهوض بالقطاع التربوي الرسمي ، ولم نسمع منهم سوى الشكوى والمزيد من المطالبة بزيادة الرواتب، وإعطائهم درجات إضافية خلافاً لما ينص عليه القانون، والتهديد بالإضراب وتعطيل التدريس ، واستخدام الطلاب كورقة مساومة لابتزاز الحكومة، وفرض مطالبهم خارج أي حس بالمسؤولية التربوية والوطنية.
ما يفعله الأساتذة ينسحب على باقي موظفي ادارات الدولة، الذين أفسدوا كل شيء، وجعلوا مراكز عملهم «مغارة علي بابا والأربعين حرامي» فبات لا يُمكن إنجاز أي معاملة دون تقديم رشوة للموظف والمسؤول .
التاجر
تحولت التجارة في لبنان إلى عمليات قرصنة وسرقة واستغلال للمواطنين،
فلكل سلعة وكالة حصرية تجعل صاحبها أميراً حاكماً بأمره، يحدد ربحه كيفما شاء دون حسيب أو رقيب، ونظراً للمكانة الرفيعة لأصحاب الحظوة هؤلاء فلقد عجزت الدولة عن إلغاء وكالاتهم الحصرية. أما التجار فتحولوا جميعاً إلى أصحاب مخازن مملوءة بالمواد المدعومة، ومخبّأة تحت الأرض وفوقها، في أبشع عملية احتكار واحتيال وسرقة شهدها بلد في العالم، فمن ملايين أطنان الوقود، إلى أطنان الدواء ، إلى ملايين أطنان المواد الغذائية، يمارس التجار استغلال الأوضاع إلى أقصى حدود الربح والمراباة، وعلى أقرب المقربين حتى ولو كان شقيقاً لهم.
المواطن السوبر
رخصة سلاح وزجاج داكن للسيارة !!!
توزعها الدولة بواسطة أجهزتها الأمنية على بعض «الشبيّحة» الساعين لتجاوز القانون (هذا إن وُجد قانون) ، فهؤلاء يحصلون على بطاقة سوبر مواطن، يجتاحون بها الطرقات والقوانين، ويدوسون على كرامة الناس العاديين، فيُطلقون الرصاص ساعة يشاؤون، في مطعم، أو حفل زفاف، أو على محطة وقود، «فَرعَل» يستقوي ويتذاكى ويعتدي، ورصاصه الطائش يقتل الأبرياء في كل مكان، وسيارته السوبر تجتاح الطرقات تدوس المارة، ولا يُقيم وزناً لقانون سير أو شرطة أو كرامة إنسان، فالأخلاق عنده باتت عادة قديمة لا قيمة لها ، والتزام القانون سِمةُ ضعفٍ لا تناسب مقامه الرفيع الشأن.
هي جريمة مشتركة ارتكبها الجميع، من مسؤولين وموظفين وسوبر مواطنين، قصمت ظهر لبنان.
عذراً أيها الثوار الأحرار الذين أردتم بحق بناء وطن ودولة حضارية تحترم حقوق الإنسان، وأردتم لبنان سويسرا الشرق، فإن شعار «كلن يعني كلن» ليس للسياسيين وحسب، بل ينسحب على الغالبية العظمى من هذا الشعب، وكما تكونوا يُولّى عليكم ، فهذا الكمُّ من الفساد والفاسدين هو سبب فشل الثورة، ويبدو أن الطريق ما زال أمامنا طويل، وعلينا الصبر والكثير من الجهد، لتحقيق الأمل بوطنٍ يستحق التضحية لأجله.