يشهد العالم تحولات وتبدلات سريعة في العلاقات الدولية، وباتت كافة الأسلحة مباحة للاستعمال؛ بدءاً من فيروس كورونا وتنافس الشركات المصنّعة للقاح، والتي جنت في عام واحد ما يزيد عن ١٢٠ مليار دولار، وصولاً إلى الفضاء الخارجي وبناء منصات المراقبة ،ولاحقاً ربما القواعد العسكرية، والسباق التقني ووسائل الاتصال مروراً بالتنافس على السيطرة على مكامن الثروات الطبيعية ومصانع الانتاج، الأمر الذي بدأ يتراجع لمصلحة شركات عملاقة للمعلومات والتجارة وطُرق المواصلات وإدارة الثروة، عبر فتح طرق وأبواب وإغلاق أُخرى، والتحكم بسوق العرض والطلب وبورصة الأسعار العالمية ، ودخول عالم العملات الرقمية التي باتت تجذب العديد من الشركات وأصحاب رؤوس الأموال ، لما تُقدّمه من مغريات، تسمح بالالتفاف على عدة قوانين وأنظمة رقابية في العالم. وبات لزاماً مع هذا التقدم العلمي والتكنولوجي وعصر 5G ، أن نشهد تغييراً في خريطة التحالفات الدولية ، ورسم معالم مرحلة جديدة للقرن ٢١.
١- السيطرة على الفضاء
رفض الصينيون منذ مدة السماح للأمريكيين بالدخول إلى محطتهم المدارية، وقررت السلطات الصينية رفض الطلب المقدّم من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية، لإجراء تجارب علمية على متن محطة «تيانقونغ» الفضائية.
وذكرت وكالة أنباء Baijiahao أن الصين دعت سبع عشرة دولة ، من بينها روسيا ، للمشاركة في العمل العلمي في المحطة. وسُمح لهذه الدول أيضًا بدمج والتحام وحدتها الخاصة مع المحطة الصينية، أو إشغال إحدى الحجرات المتاحة في المحطة. وفي الوقت نفسه ، تم رفض وجود الأمريكيين ، لأنهم لا يستوفون الشروط والمعايير المحددة وفقاً للتبرير الصيني.
ومن الواضح أن جمهورية الصين الشعبية رفضت دخول الولايات المتحدة الأمريكية إلى محطتها الفضائية ، رداً على عدم سماح السلطات الأمريكية في وقت سابق، لرواد فضاء صينيين بالمشاركة في مهمة دولية، أُرسلت إلى محطة الفضاء الدولية المشتركة مع روسيا.
الآن تبني الصين الإمبراطورية السماوية الخاصة بها، فهي اليوم الدولة الوحيدة في العالم التي لديها محطتها المدارية الخاصة. وقريباً ستصبح بالتعاون مع روسيا القوة العظمى المسيطرة على الفضاء الخارجي، لأنه كما بات معلوماً أن الأمريكيين سيتوقفون عن استخدام محطة الفضاء الدولية في عام 2025.
وكما في الفضاء كذلك على الأرض يتمدد تنين الشركات الصينية العملاقة في البر والبحر عبر مشروع «الحزام والطريق»، بدءاً من استثمار مناجم الذهب والحديد في أفغانستان وحتى عمق أفريقيا، وإلى السيطرة على ثلث أكبر ٥٠ مرفأ في العالم وامتلاك اكبر أسطول شحن بحري، إضافة إلى محفظة استثمارية لها في 40 ميناءً على الأقل في أميركا الشمالية والجنوبية وأفريقيا والشرق الأوسط وشرق أوروبا ووسط آسيا وجنوب شرقي آسيا وأستراليا والمحيط الهادي ،من فيتنام وسيرلانكا، إلى مصر وإيطاليا واليونان وبلجيكا وفرنسا وصولاً إلى البرازيل وكندا .
آلاف مليارات الدولارات واقتصاد ضخم مدعوم بسلطة سياسية حازمة طموحة ، تمدد في معظم دول العالم، وبات خطره هاجس الأمريكيين الأول وفق تعبير الرئيس بايدن.
ويعتبر المراقبون أن هذه الخطوة هي مؤشر واضح على طموحات الصين المستقبلية، وسعيها للحلول مكان الولايات المتحدة الأمريكية في زعامة العالم . وفيما يشكك بعضهم في نجاحها بذلك، يعتقد الخبراء الروس أن السلوك الأمريكي العدائي نحو روسيا، وعدة دول في العالم، يدفع بهذه الدول إلى التكتل ، وتعزيز تضامنها وقدراتها العسكرية والاقتصادية والتي ستؤدي حتماً إلى زيادة التوتر في عدة مناطق من العالم .
٢- تركيا والدور الجدي
دفع السلوك الأمريكي بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي شكّ بوجود أصابع للمخابرات الأمريكية في الانقلاب العسكري الأخير الذي نُفذ ضده، إلى مغازلة روسيا، والشراء منها منظومة صواريخ أس ٤٠٠ الحديثة المضادة للطائرات ، مما فجر الخلاف التركي الأمريكي علناً حيث ردت الولايات المتحدة على اردوغان بطرد تركيا من مشروع طائرات أف ٣٥ المتطورة، رغم أن تركيا كانت قد ساهمت بمبلغ ١،٢ مليار دولار في المشروع . وفي مقابل الإصرار الأمريكي على إبعاد تركيا عن صفقة الطائرات هذه أعلن أردوغان عن عزمه شراء منظومة أس ٤٠٠ ثانية من روسيا في إشارة واضحة إلى استعداده لزيادة التعاون مع روسيا والابتعاد عن الحليف الأمريكي الذي طعنه في الظهر أكثر من مرة.
هذا ولا يخفى سعي تركيا إلى تثبيت دورها كقوة محورية في الشرق الأوسط، عبر تطوير صناعة الأسلحة، وبناء قواعد عسكرية في قطر والأردن وقبرص، وصولاً إلى طرابلس الغرب، وحماية النصرة في أدلب السورية.
٣- تصدّع العلاقات الأمريكية الأوروبية
وجاءت الطعنة الأمريكية الأخيرة لفرنسا حليفتها في الناتو، بسرقة صفقة الغواصات، التي كانت معقودة بينها وبين استراليا، بمثابة قرع جرس إنذار الافتراق الأمريكي مع أوروبا.
فلقد تمكّنت الولايات المتحدة الأمريكية العام الماضي من خلخلة الاتحاد الأوروبي، بدفع بريطانيا إلى الخروج منه. والآن أعلنت التحالف الثلاثي مع بريطانيا وأستراليا، والذي سيتحول إلى خماسي على الأرجح بانضمام اليابان وكوريا الجنوبية لاحقاً إليه ، وتأتي هذه الخطوة كردّ، وعقاب أمريكي للاتحاد الأوروبي على السلوك المشاغب لفرنسا والمانيا، اللتين رفضتا الانصياع للإملاءات الأمريكية بوقف تنفيذ خط الغاز الروسي «السيل الشمالي» ، الذي تم الانتهاء من بنائه وسيبدأ بإمداد الغاز الروسي إلى معظم الدول الأوروبية قريباً، ليتم بذلك الاستغناء عن شحنات الغاز الأمريكي المرتفعة التكاليف والباهظة الثمن.
وكانت العلاقات الأمريكية الفرنسية شهدت تباينات عديدة منذ رفض فرنسا الحرب الأمريكية على العراق عام ٢٠٠٣، وانتهاءً بالموقف الفرنسي من العقوبات على إيران، واعتراضها على الخروج الأمريكي الأخير من الاتفاق النووي مع طهران، وإلى التصريحات الأخيرة للرئيس ماكرون بأن : أمريكا تهتم بمصالحها وبالصين ، وعلى أوروبا أن تحمي نفسها بنفسها.
٤- السعودية في الواجهة
بعد الخروج الأمريكي من أفغانستان سيتبعه خروج أمريكي آخر من العراق ولاحقاً من سوريا بما يفتح الساحة أكثر أمام النفوذ الإيراني والتركي، الأمر الذي أزعج السعودية، هذا إضافة إلى انتقادات الإدارة الأمريكية للمملكة العربية السعودية، بدءاً من قضية خاشقجي، إلى الحرب في اليمن ورفض الأمريكيين تلبية الطلبات السعودية للإمداد بالسلاح والذخائر اللازمة، بحجة أنها تُستعمل لقتل المدنيين في اليمن ، وإقدام الولايات المتحدة مؤخراً على سحب منظومة صواريخ باتريوت المتطورة من قاعدة الأمير سلطان الجوية، رغم وجود خطر الصواريخ الحوثية والإيرانية الذي يتهدد المملكة، وصولاً إلى الفصل الأخير من الاتهامات الأمريكية المبطّنة للمملكة بالتورط في تفجيرات ١١ أيلول، وذلك بعدما سمح الرئيس الأمريكي جو بايدن بالإعلان والكشف عن وثائق سرية في ملف التحقيقات ، والتي تُشير إلى تورط شخصيات سعودية في العملية الإرهابية.
دفع هذا التوتر في العلاقات السعودية الأمريكية إلى رفض ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان استقبال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، الذي كان ينوي زيارة السعودية من ضمن جولة له في المنطقة الخميس ٢٣ أيلول، وفي إشارة واضحة قام ولي العهد باستقبال رئيس لجنة العلاقات الدولية في الدوما الروسي ليونيد سلوتسكي، في نفس التاريخ الذي كان طلب فيه وزير الدفاع الأمريكي موعداً للزيارة ، وكما بات معلوماً أن السعودية طلبت من الأمريكيين تأجيل الزيارة دون تحديد موعد لاحق لها.
تعلم السعودية أنها بحاجة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بصيانة ترسانة الأسلحة الضخمة لديها، الأمريكية الصنع، وكذلك لتأمين الذخيرة اللازمة والاستدامة لهذه المنظومات ، من طائرات ورادارات وصواريخ ودبابات . وفي المقابل تعلم الولايات المتحدة أهمية السعودية كأكبر مستورد للصناعات العسكرية الأمريكية في العالم، وهي لن تُفرط بعلاقاتها معها ولهذا السبب أرسلت بشكل عاجل مستشار الأمن القومي جيك سوليفان لبحث أزمة اليمن كما أعلنت الإدارة الأمركية ، وأما الهدف الأهم للزيارة، فهو إعادة ترتيب العلاقات المتوترة مع المملكة، وقطع الطريق على أي تعاون عسكري روسي سعودي محتمل .
فالسعودية الغنية ونقطة الارتكاز في الخليج والعالم العربي والشرق الأوسط ، لديها خيارات عديدة . وأول رد على سياسة الابتزاز التي تمارسها بحقها الادارة الأمريكية، كان التلويح بالتوجه شرقاً، حيث تجري مباحثات جدّية حول شراء منظومات صواريخ مضادة للطائرات من روسيا، من طراز أس ٤٠٠ وأس ٥٠٠ وأس ٦٠٠ وشبكة الرادارات التابعة لها ، وكذلك يدور البحث حول تزويد السعودية بدبابات أرماتا الحديثة ، وطائرات سو-٥٧ التي تُعتبر الأحدث في العالم.
٥- خريطة التحالفات
رغم التباين والتنافس الصيني الروسي إِلَّا أن سياسة الولايات المتحدة العدائية ضدهما دفعت بهما إلى التحالف وزيادة التعاون، فالصين تحتاج إلى التطور الروسي في صناعة الاسلحة الحديثة، فيما تحتاج روسيا إلى الدعم الاقتصادي من الصين، التي باتت تستثمر بمليارات الدولارات في روسيا، خاصة في الشرق الأقصى ومنطقة الفلاديفاستوك. واستفادت روسيا من حاجة الاتحاد الاوروبي إلى الغاز ، وتمكّنت من تحقيق أهم مشروع لإمداد أوروبا به عبر خط أنابيب السيل الشمالي، وهذا يفرض على الدول الأوروبية من الآن وصاعداً التعاطي مع روسيا بشكل مختلف عن السابق، حيث باتت تمتلك روسيا عدة أوراق ضاغطة على الاقتصاد الأوروبي.
القوى الصاعدة والباحثة عن دور لها في المنطقة والعالم كإيران وتركيا وباكستان، أصبحت تمتلك أيضاً نفوذاً فاعلاً في عدة مناطق في الشرق الأوسط، من أفغانستان ودول القوقاز إلى العراق وسوريا ولبنان وليبيا ، وهي لم تعد دول مطيعة للإدارة الأمريكية، بل تحولت إلى دول مشاكسة تستثمر في التنافس الصيني الأمريكي، لتحسين شروطها ودورها المستقبلي.
بعد منافسة اليورو للدولار جاء الآن دور العملة الصينية ، فالصين منذ بداية أيلول بدأت تطلب من الشركات العالمية التعامل معها بواسطة اليون الصيني، واستقرّ هذا الأمر في العديد من التبادلات التجارية مع روسيا وإيران وكوريا الشمالية، وبات الآن يتوسع ليشمل دولاً وشركات أُخرى في العالم.
لن تتظهّر التحالفات الجديدة في أحلاف عسكرية ثلاث قريباً ، لكن التنافس بين مراكز القرار العالمي لا شك بات متعدد الأقطاب، ولم تعد الولايات المتحدة الأمريكية القوة الوحيدة المتحكمة بإدارة الصراعات في العالم، وهذا ما بدأت تظهر نتائجه في الشرق الأوسط، من رسم جديد لحدود النفوذ والعلاقات، بدءاً من العراق الثلاثي الأضلاع ، إلى سوريا الدويلات الثلاث، إلى فيدرالية ليبيا المقنّعة، ويبدو أن العالم العربي ما زال هو الخاسر الأكبر في هذه اللعبة .