منذ الاستقلال قام لبنان على التسويات. بدءاً بالتسوية بين بشارة الخوري ورياض الصلح، في ما سُمّي ب «الميثاق الوطني»، الذي كرّس النظام الطائفي، وكان عماده تحالف وتوافق على اقتسام السلطة بين الموارنة والسنة، مع تهميش لدور الطوائف الباقية. هذا الأمر أسس لبروز تيار علماني، قاده مؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط مع نخبة من الشخصيات الوطنية، وتبلور لاحقاً في برنامج الجبهة الاشتراكية للأصلاح عام ١٩٥١ ، التي أسقطت بشارة الخوري، وأوصلت كميل شمعون إلى رئاسة الجمهورية .
سقطت أحلام الجبهة الاشتراكية بدولة عصرية متقدمة ، بعد ان انقلب شمعون على حلفائه، ليعود الصراع بشكل أكثر شراسة، أوصل البلاد إلى ثورة مسلحة عام ١٩٥٨، انتهت ايضاً بتسوية، على قاعدة العبارة الشهيرة لصائب سلام «لا غالب ولا مغلوب» وأوصلت فؤاد شهاب إلى رئاسة الجمهورية.
عاد الصراع وانفجر مجدداً عام ١٩٦٨ وقاده الحلف الثلاثي بين الأحزاب المسيحية الكبرى لإنهاء الشهابية السياسية . وأنتهى الخلاف بتسوية تمت بموافقة الكتائب والأحرار ومعارضة الكتلة الوطنية على اتفاق القاهرة ١٩٦٩ ، الذي سمح بالعمل الفدائي الفلسطيني المسلّح ضد إسرائيل انطلاقاً من جنوب لبنان .
أسست تسوية ١٩٦٩ لانتشار السلاح والفوضى وإضعاف الدولة، وانتجت حرباً أهلية عام ١٩٧٥، لتسقط مجدداً أحلام اصلاح الدولة، بتسوية دولية جديدة ، قضت بدخول قوات الردع العربية إلى لبنان، والتي تحولت لاحقاً إلى قوات سورية فقط . وتم توزيع لبنان جوائز ترضية ، تقاسمت فيه النفوذ كل من ؛ سوريا، وإسرائيل، ومنظمة التحرير الفلسطينية ، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفياتي، والعراق ، وليبيا، وغيرهم .
انتهت الحرب بتسوية الطائف التي جاءت بنصف حلول، وأرست من جديد نظام التقاسم الطائفي للسلطة، وما لبثت أن تم الانقلاب عليها، وتحول لبنان إلى سلطة رئيس جهاز المخابرات السورية في عنجر بشكل مباشر، مُنتدَباً من الرئيس حافظ الأسد، الذي اعتبر أن لبنان هو مكافأة له على دوره إلى جانب التحالف الدولي في حرب تحرير الكويت .
في عام ٢٠٠٤ وقع الخلاف بين الرئيس السوري بشار الأسد، الذي قرر التمديد لرئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك إميل لحود، والقوى المعارضة للتمديد كوليد جنبلاط ورفيق الحريري، إضافة الى القوى المسيحية وعلى رأسها الكنيسة المارونية . وبعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، انقسم اللبنانيون بين مؤيد ومعارض لسوريا . وخرجت القوات العسكرية السورية من لبنان بقرار أمريكي أوروبي، لتتم بعد ذلك تسوية جديدة في الدوحة، بين قوى ٨ و ١٤ آذار ، أسفرت عن انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وعلى قاعدة المساكنة بين مشروعين متناقضين، وتحت شعار عدم المس بسلاح المقاومة .
في عام ٢٠١٦ وبعد تعطيل لمدة سنتين للانتخابات الرئاسية، تحت عنوان رَفعه حزب الله والتيار الوطني الحر «عون أو لا أحد»، عقد قائد القوات اللبنانية سمير جعجع تسوية مع ميشال عون ودعم ترشيحه للرئاسة بهدف قطع الطريق على وصول سليمان فرنجية . ثم عقد رئيس تيار المستقبل سعد الحريري تسوية مع ميشال عون، تقاسم على أساسها الطرفان الحكم، إلى أن نشب الخلاف بين الحريري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، على الحصص والمغانم في السلطة، فتعطل البلد وانهار كل شيء .
في كانون الاول ٢٠١٩ شُكلت حكومة التحدي واللون الواحد برئاسة حسان دياب فتفاقمت الأزمة الاقتصادية وحدث انفجار المرفأ الذي شكّل مدخلاً لاجبار دياب على الاستقالة في ١٠ آب ٢٠٢٠.
وبعد أن بات الشعب غارقاً في الفقر واليأس والمذلّة، وتعطيل لتشكيل الحكومة لأكثر من سنة، أبصرت حكومة الرئيس ميقاتي النور ليتضح أنها جاءت نتيجة تسوية جديدة عقدها مع جبران باسيل، الذي أجرى فحص أهلية للوزراء قبل تعيينهم، بمن فيهم وزير الداخلية السني المحسوب على ميقاتي .
تسوية جديدة أنتجت حكومة ضعفاء، تبين بسرعة أنها أعجز من أن تقدم أي حلول للأزمة المتفاقمة، وتحتاج إلى معجزة لإنقاذ البلد، وفق تعبير رئيسها من الصرح البطريركي أمس. فبعد انخفاض وهمي مفتعل لسعر صرف الدولار، ها هو يعود بعد أقل من شهر ليتجاوز ١٩ الف ليرة ، بعد أن كان تراجع إلى ١٣ الف عند الإعلان عن تشكيل الحكومة.
لن تفعل الحكومة شيئاً سوى تخدير المواطنين لتمرير الوقت ومسرحية الانتخابات، ولتتحول بعد أقل من ستة أشهر إلى حكومة تصريف أعمال، وتعود البلاد إلى دوامة التعطيل والفشل واستيلاد الأزمات، تحت عناوين؛ حقوق الطوائف، وحرب الصلاحيات، ومحاربة الاستكبار، وتحرير القدس، واليمن، والعراق، وسوريا، وغداً ليبيا، والسودان، والصومال، وربما العالم، فيما شعب لبنان بات يلهث وراء لقمة العيش، وبرميل مازوت، يمنّ به المسؤول على الفقراء، مقابل ضمان أصواتهم في صندوق الاقتراع .