بات واضحاً ، وربما مؤكداً، أن العودة السورية إلى جامعة الدول العربية، أو العودة العربية إلى سوريا لن تكون محصلة تفاعلات أو إرادات عربية ـ عربية بقدر ما ستكون ضمن مخرجات الحل الدولى- الإقليمى للأزمة السورية التى لن يكون للعرب نصيب فيها، خصوصاً أن الأدوار التى تؤديها الآن بعض الدول العربية، فى التفاعلات الدولية والإقليمية التى تجرى الآن لتجديد تحريك الأزمة السورية ليست ضمن مشروع عربى، بقدر ما هى محسوبة على تلك التفاعلات الإقليمية والدولية . حتماً هذه الخصوصية التى تتصف بها تلك العملية التى تجرى الآن لإعادة تحريك حل الأزمة السورية ستكون لها انعكاساتها المستقبلية على علاقة سوريا بعالمها العربى، ليس هذا فقط، بل ربما تكون لها انعكاساتها على النظام العربى كله، وهى بالمناسبة انعكاسات سلبية، تفوق كثيراً ما حدث وما يحدث مع العراق، وأعنى سلبية التجربة العربية مع الغزو والاحتلال الأمريكى للعراق وما جرى بعدها لحل الأزمة العراقية، الأمر نفسه ربما ينطبق أيضاً على الأزمة الليبية والأزمة اليمنية، وربما يكون هذا كله مقصوداً بهدف تفكيك النظام العربى والإجهاز عليه وفرض نظام آخر بديل مازالت فرصه مستعصية. والآن، وإن كانت الأمور ما زالت غائمة بخصوص النظام الذى يمكن أن يفرض على العرب ضمن ما يجرى حالياً من عمليات تستهدف تسوية الأزمات العربية، إلا أن الواضح جداً أن روسيا تظهر بصفتها اللاعب المهم، وربما الأهم، فى تسوية تلك الأزمات، وخاصة الأزمة السورية فى ضوء ما هو مشاهد من تراجعات فى الأدوار الأمريكية، بدليل أن القوى الإقليمية الشرق أوسطية المتورطة فى كل هذه الأزمات: إسرائيل وإيران وتركيا تتنافس على كسب الود الروسى للحصول على شراكة إستراتيجية مع موسكو تؤمن لها قطعة، لا بأس بها، من كعكة ذلك النظام الجديد. كارثة عربية؟ نعم.. وهذه هى الحقيقة بدليل: 1- ما يروج له الآن من وثيقة غربية (أمريكية- أوروبية بمشاركات عربية ، أردنية بالتحديد) لإعادة تحريك عملية حل الأزمة السورية التى تجمدت كثيراً ، تحريك يأخذ فى اعتباره المتغيرات الجديدة، وخاصة أولوية التوجه الأمريكى لهندسة تحالفات دولية جديدة ضد الصين فى منطقتى المحيطين الهندى والهادى، وتداعى التحالف الغربى فى سوريا (الأمريكى- البريطانى- الفرنسى) فى ظل ما جرى من عزل أمريكى – بريطانى لفرنسا من عضوية التحالف الجديد الأمريكى- البريطانى – الاسترالى. متغيرات تقول إن الدور الأمريكى فى سوريا أضحى على رحيل، على العكس من الدور الروسى، والأهم أن رسائل هذه المعادلة الدولية الجديدة فى سوريا وصلت إلى القوى الإقليمية المتصارعة فى سوريا: إسرائيل وتركيا وإيران، كما وصلت أيضاً إلى أطراف عربية، بدأت تدرك أنه لا مناص لها من مغازلة روسيا. 2- الدور الروسى المتصاعد فى سوريا بالاجتهاد فى هندسة تحالفات روسية مع القوى الثلاث الإقليمية المتصارعة فى سوريا: إسرائيل وتركيا وإيران التى تحرص كل منها على نفى الأخرى داخل سوريا، وتريد أن تتفرد بالنفوذ فى سوريا تحت الراية الروسية. بدأت هذه العملية بلقاء الرئيس الروسى فلاديمير بوتين على التوالى مع الرئيس السورى بشار الأسد وبعده استقبل وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف وزير الخارجية الإسرائيلى الجديد يائير لابيد، ثم استقبال الرئيس الروسى فلاديمير بوتين للرئيس التركى رجب طيب أردوغان، وضمن هذه اللقاءات كانت مشاركة الرئيس الإيرانى الجديد إبراهيم رئيسى فى قمة دول “منظمة شنغهاى للتعاون” الحادية والعشرين التى عقدت (17/9/2021) فى العاصمة الطاجيكية دوشنبة حيث أقرت هذه المنظمة وصادقت على قبول إيران كعضو كامل العضوية فى المنظمة. الرئيس الروسى فلاديمير بوتين الذى شارك فى هذه القمة عبر “الفيديو كونفراس” قال إن روسيا تؤيد قرار البدء فى إجراءات قبول إيران ضمن عضوية “منظمة شنغهاى للتعاون”، وقال إن انضمام إيران للمنظمة “سيسهم بلا شك فى زيادة تعزيز المكانة الدولية لمنظمة شنغهاى للتعاون”، ما يعنى تثبيت إيران ضمن منظومة الشراكات الإستراتيجية الروسية، وسبق أن حققت إيران ذلك مع الصين عبر اتفاقية تعاون تاريخية أزعجت الأمريكيين والإسرائيليين كثيراً ومازالت. الوثيقة التى توصف بـ “السرية” والتى أعطاها البعض مسمى “وثيقة أردنية سرية” تتحدث عن توجه غربى جديد مع سوريا بالدعوة إلى التوقف عن سياسة تغيير النظام السورى، وانتهاج الدعوة إلى “تبديل سلوكه”، وصولاً إلى انسحاب جميع القوات الأجنبية التى دخلت إلى سوريا بعد عام 2011 بما فيها القوات الأمريكية والإيرانية ولكن مع “اعتراف بمصالح روسية مشروعة” فى سوريا. الأهم أن هذه الوثيقة وفقاً لتوضيحات لخبراء غربيين ليست أردنية، كما يروج، لكن ربما يكون للأردن دور جوهرى فى تحقيقها بجعله مركز اختراق للأزمة مع سوريا، وذلك بالإشارة أن العاهل الأردنى ناقشها مع الرئيس الأمريكى جوزيف بايدن فى واشنطن (يوليو 2021) ثم مع الرئيس الروسى بوتين فى موسكو (أغسطس 2021) ، ونوقشت على هامش قمة دول جوار العراق (28 أغسطس 2021)، وعليه تقترح الوثيقة مقاربة جديدة بما يؤدى إلى إعادة التركيز على الحل السياسى فى سوريا وفق القرار الدولى 2254 ومعالجة الأزمة الإنسانية وانعكاساتها الأمنية فى سوريا وجوارها بطريقة تقوم على سلسلة من الخطوات التراكمية عبر “خريطة تنفيذية” ضمن مقاربة “خطوة مقابل خطوة” ترمى فى النهاية إلى تنفيذ القرار الدولى رقم 2254 وإنهاء الوجود الإيرانى وحلفائه فى سوريا، ثم تطبيع العلاقات السورية مع كيان الاحتلال الإسرائيلى وبلورة صيغة للأمن المشترك مع اعتراف لروسيا بدور فاعل فى تنفيذ ورعاية هذه الخريطة الجديدة.
الوثيقة بهذا المعنى تعوِّل على روسيا لتنفيذها، فهل ستقبل روسيا بذلك؟ مع الأخذ فى الاعتبار أن لروسيا مصالحها الخاصة ليس فقط فى سوريا بل مع شركائها الإقليميين: إسرائيل وتركيا وإيران، فإلى أى مآل ستصل هذه الوثيقة إن قبلت بها روسيا، وكيف سيكون بمقدور روسيا الحفاظ مع مصالحها وفى ظل تناقض مصالح كل هؤلاء الشركاء ، وأين سوريا من هذا كله؟ فالوثيقة ، ضمن بنودها، ترمى إلى احتواء سوريا وإعادة دمجها فى المشروع الأوسع لما يعرف بعملية التسوية على أنقاض التحالف الروسى – الإيرانى، وبتفاهمات مع تركيا ، هذا هو التحدى الذى يواجه موسكو .. فهل ستقدر عليه؟