عمار يا مصر
أدركت هزيمة 67 وشعرت بالإنكسار والخوف .. ذلك أنها أول حرب أعايشها ويدركها جيلي كله .. لم نكن وقتها نعرف اللون الأزرق علي زجاج شبابيك البيوت ، ولم نكن نسمع نداء ” طفي النور ” ولا صافرات الإنذار ، ولا النظر إلي السماء لمشاهدة طائرة حربية تطير علي ارتفاع منخفض وتخترق حاجز الصوت فيتهاوي زجاج فاترينات المحلات في الشوارع ، وتتهاوي قلوبنا معه !
ماذا يحدث ، ولماذا يحدث ؟ .. كانت الحكايات تنسجها خيوط لا أول لها ولا آخر كتلك التي قرأناها في ألف ليلة وليلة .. كنا ننتظر الصباح ليتبدد خوف الليل والظلام إلا من أزيز بعض الطائرات ، وأخبار مشوشة تتناثر هنا وهناك تثير مشاعر متناقضة تزيد الخوف أحيانا ، وتبدده أحيانا أخري .. كنا في منطقة محافظة الشرقية خط الدفاع الأول بعد أن وقعت النكسة
لم يستمر الشعور بالانكسار طويلا .. فقد استوعبنا الصدمة وفهمنا الدرس ، وبات علينا أن ننتظر أجوبة لأسئلة كثيرة حائرة ! لكن سرعان مااسترد الجيش نفسه ، وزف لنا أثير الراديو خبر موقعة رأس العش التي أكدت رفض الهزيمة واستعادة المبادرة في 1 يوليو بعد أقل من شهر !
عايشت الحرب المنسية (حرب الإستنزاف ) التي ” شيبت ” شعر قادة الكيان الصهيوني ، وأفقدته الشعور بالنصر والزهو بانتصاره الكاذب .. فالجبش المصري لم يحارب في 5 يونيو ! .. وجاءت صيحة الحق بالعبورالعظيم الذي زلزل العالم ، وكنت قد شاركت فى لجان الدفاع الشعبى ﻷن محافظة الشرقية كانت خط الدفاع الأول كما أشرت .
لهذا فإن حرب أكتوبر المجيدة كانت وستظل علامة فارقة في تاريخ مصر المعاصر ، وشرف للعسكرية المصرية ، وعزة وكرامة وفخر للشعب المصري .. ليس لكونها حققت انتصارا تاريخيا علي اسرائيل ، وليس لأنها سحقت خط بارليف وداست عليه كما تدوس القدم علي بيت من رمال صنعه طفل علي شاطئ البحر ، وليس لأنها كانت في عز الظهر – وهو توقيت لم تعرفه الحروب العسكرية بين الجيوش حيث تبدأ الحروب مع أول ضوء أو آخر ضوء – وليس لأنها حققت السيطرة علي طول الجبهة وعبرت أكبر وأعقد مانع مائي في ست ساعات .. !
ولكن لأنها صنعت روحا تسري في وجدان الشعب المصري أطلقنا عليها ” روح أكتوبر” .. كلما تعثرنا أو ضلت أقدامنا الطريق استدعيناها نستلهم منها القدرة علي التحدي والصمود واستكمال الطريق .
في تقديري أن حرب أكتوبر ملحمة لن تنتهي فصولها ، ولن تنضب حكاياتها وستظل شاهدة علي عظمة المصريين الذين خططوا وقاتلوا واستشهدوا وأصيبوا وصنعوا لمصر تاريخا نفخر به لأنها ببساطة روح ، والروح لا تموت .
في الذكري الثامنة والأربعين نتذكر حرب اكتوبر بالنصر المبين والفخر ، وتتذكرها اسرائيل بالهزيمة والقهر والمرارة ، وبعد 48 عاما يشعر الكيان الصهيوني بمرارة العلقم في حلقه ، وما زال يحاسب نفسه ويراجع الأخطاء التي وقع فيها ، ويتذكر خطة الخداع الاستراتيجي العبقرية التي وقع في شباكها ولم ينفعه شاباكه ولا موساده !
لذلك يظل الجيش المصري بحول الله وقوته شوكة في حلق الكيان الغاصب ، ورمزا شاهدا علي تحطيم أسطورته التي روج لها .
قادة اسرائيل يذكرون أنفسهم – مهما كان الجالس في سدة الحكم عندهم – بيوم كيبور ويؤكدون عزمهم على التحرك بلا هوادة من أجل عدم تكرار ما حدث ، بل والاستماته لعدم نمو أي قوة عسكرية في محيطهم .
هذا ما تشعر به اسرائيل منذ الهزيمة في 1973وحتي اليوم وإلي آخر الزمن .. وهذا يؤكد لنا وللأجيال التي لا تعرف كثيرا عن حرب أكتوبر غير سطور قليلة في كتب المدارس ، وللأجيال التي لا تعرف عن نصر أكتوبر غير يوم الأجازة – وبعد كل هذه السنوات – أن هذا النصر أحدث جرحا غائرا في جسد وعقل الكيان الصهيوني الغاصب ما زال ينزف حتي اليوم وسيظل ينزف طويلا !
أنا محظوظ ﻷني وجيلي كله أدركنا كل هذا .. وعندى الكثير والكثير ﻷحكيه وأقوله لأحفادي ليعرفوا قيمة جيش مصر العظيم المؤتمن عليها وعلي شعبها ، ويعرفوا قيمة وطنهم الذى يملك درعا وسيفا ..
تحية للشعب المصري وتحية واجبة لشهداء الوطن والواجب في كل حروب مصر ومعاركها المقدسة ، وتعظيم سلام لكل مقاتل في جيشنا العظيم من القائد الأعلي إلي آخر جندي قاتل وساهم في تحقيق النصر ورد الكرامة والاعتبار وما زال .. ولا أستثني منهم أحدا ..
ويبقي القول .. كل عام ومصر بخير ودائما تحيا مصر وتسلم الأيادي