يمثل السودان بالنسبة لمصر عمقا استراتيجيا من الناحية الجنوبية ولهذا تأتي أهمية حرص مصر على استقرار وأمن الاشقاء شركاء وادي النيل.
ولاشك ان الاحداث الاخيره التي شهدها السودان تمثل نكسة متوقعة في عملية استعادة الديموقراطية والحياة المدنية .
ونقول متوقعة لأن الاختلاف في الفترة الأخيرة تحول الى خلاف بل صراع بين المكونين المدني والعسكري المعنيين باتمام الفترة الانتقالية المقرر لها الانتهاء في عام 2024 .
وليس من باب المبالغة القول ان اصرار عبد الفتاح البرهان على الانفراد بالسلطة قد اضاع كل ما انجزته الدولة السودانية في العامين الاخيرين تحت مسمى حماية الثورة وهو الامر الذي رفضه المكون المدني ومن قبله الشارع السوداني !.
وهذا يجعلنا نبحث في طبيعة البنية السياسية السودانية عبر الحقبة الماضية وربما نستشرف من دراسة المشهد الحالي مستقبل الجارة الجنوبية لمصر .
استقل السودان في الأول من يناير عام 1956، وخلال خمسة وستين عاما لم تكن المرة الاولى التي يطيح فيها العسكريون بالمدنيين .
وقد وقع أول انقلاب عسكري ضد المدنيين في شهر نوفمبر عام 1958، قاده الفريق إبراهيم عبود ضد الحكومة الإئتلافية المكونة من حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي
وفي عام 1964 اندلعت ثورة شعبية أطاحت بالحكم العسكري ، لتحكم السودان تحالفات حزبية من خلال حكومات جاءت عن طريق الانتخابات و جاء جعفر النميري الذي قاد انقلاباً عسكرياً ناجحاً ضد المدنيين في 25 مايو عام 1969
وحكم النميري السودان باسلوب ديكتاتوري أحادي النظرة لأكثر من 16 عاماً، حتى تمت الإطاحة به بثورة شعبية، اعادت الحكم المدني من جديد الى الصورة من خلال حكومات منتخبه كان اخرها حكومة الصادق المهدي !
ولكن عمر البشير قاد إنقلاباً عسكرياً ناجحاً، وصل فيه الى السلطة ليستولي العسكريون للمرة الثالثة على السلطة، يوم 30 يونيه عام 1989، وتم إقصاء من الحكومة المدنية الحزبية المنتخبة برئاسة المهدي، وأطلق النميري على هذا الانقلاب «ثورة الإنقاذ الوطني» ، وظل البشير حاكماً للسودان بالتعاون مع الجبهة القومية الإسلامية بقيادة حسن الترابي، إلى ان انقلب البشير على الترابي واودعه السجن! .
في شهر ديسمبر عام 2018 تم الإطاحة بحكم البشير عبر ثورة شعبية، الى أدت رحيله عن السلطة يوم 11 ابريل عام 2019، بقرار من الجيش
تسلم السلطة الفريق عبدالفتاح البرهان بعد اتقاق مع الحركة الشعبية وقواها السياسية المسماه «قوى إعلان الحرية والتغيير» .
وفي 17 أغسطس 2019 توافق المكونان العسكري والمدني على وثيقة دستورية، تحدد فترة انتقالية تقوم على الشراكة بين الجانبين ، حتى شهر يناير 2024، ليقوم العسكريون بتسليم المدنيين السلطة
ولكن حدث كما اسلفت ما هو متوقع بحكم الخبرات السابقة وقرر العسكريون الاستئثار بالسلطة في 25 نوفمبر 2021
وقاموا على الفور اعتقال رئيس الوزراء عبدالله حمدوك وهي خطوة غير محسوبة نظرا لعلاقات حمدوك القوية بالغرب الذي رفض المساومة والتنازل للبرهان ورفض قبول ما أقدم عليه العسكريون !
وهنا اختلف مع الراي الذي شبه ماحدث في السودان مؤخرا بالذي حدث بمصر يومي 30 يونيه و3 يوليه 2013 حيث الظرف الموضوعي للحالتين مختلف ماحدث بالسودان السودان كان تصدعا في شراكة العسكريين والمدنيين أما في مصر لم يكن سوى ان القوات المسلحة المصرية قد قامت بتنفيذ إرادة الجماهير التي تحددت في ضرورة إسقاط حكم الاخوان ومهما قيل ان حكومة مرسي كانت شرعيه لانها قادمة بالانتخابات فإن هذه الشرعية اسقطتها ثورة الجماهير صاحبة المصلحة في التغيير !
نعود للمشهد السوداني الذي اصبح ضبابيا ومتارجحا بين جموح العسكريين ومعارضة المدنيين للانقلاب على الوثيقة الدستورية .
واعتقد ان الرهان في المدى المنظور سيتوقف على فرض ارادة الشارع السوداني من اجل تكملة المسار الانتقالي للتحول نحو الديموقراطية وحتى يتحقق ذلك سيعاني السودان من صراع على السلطة وشد وجذب بين العسكريين وقوى الحرية والتغيير !