و… في هذه المسافة بين نقد الذات وجلد الذات. يتحرك دائما فريقان متضادان، لا يجتمعان ولا يتقابلان، لكن لابد منهما معا ، كواحدة من الثنائيات المتعارضة في الحياة وطبيعتها التي تحير ذوي الألباب.
الفريق الأول بغيض ذليل مهان، وقد عرضت لبعض مظاهر ذلك في المقالين السابقين، رغم مرارة الحديث عنه، وعن طبيعة السوقة والرعاع لمن يمثله من الذين اشتروا بعروبتهم ثمنا بخسا«دراهم» و«دولارات» معدودة، والذين اشتروا ذممهم كانوا فيهم من الزاهدين، فكل حين نرى بعضهم ملقى على قارعة الطريق، لا يساوي جناح بعوضة، حتى في سوق النفوس التي أذلها اللهاث والهرولة وراء وعد بسلطة أو إيهام بملجأ يكونون فيه هاربين من الأيام التي تلوح لهم بما ليس في حسبانهم، والقادم لهم أسوأ وأضل سبيلا، لكنهم لا يفقهون..
وأما الفريق الرابح، ولو على المدى البعيد، إذ إن أصحاب الفكر الثوري هم الفائرون دائما وأبدا، فهم الذين ينقدون وينتقدون ويحرضون على النقد المجتمعي الخلاق، لإعادة ما قد يتهدم من البناء الذاتي بفعل جدلية الحياة وثنائياتها، يكتبون ويقولون ويتحدثون، ويكسرون القشور الصلدة التي تعيق حركة المجتمع وتوقف حراكه الطبيعي، ويثيرون الأسئلة المسكوت عنها، ويحرضون على التفكير في اللَّامفكر فيه..!.
وهذا الاتجاه هو محور هذه النقطة التي لا يمكن أن تكون الأخيرة في هذا السطر من كتاب نقد الذات وجلد الذات ، أو كفة الميزان التي تميل به إلى الحق وصولا إلى حقيقة الذات العربية، وفي مقابلها الكفة الخفيفة التي يحاولون جعلها ثقيلة بسمومهم ونفثاتهم التي تبرق في البصر الضعيف ثم تنطفيء بسرعة البرق.، ولا يدركون أن من خفت موازينه الحاضرة فأمه هاوية وما آدراك ما هية، ومن ثقلت موازينه الحضارية فهو فهو جدير بالعيش في هذا العالم الذي تهنز ثوابته تحت متغيراته، ولا يثبت إلا من يستند إلى جدار تاريخي لا ينقض ولا ينبغي له..انطلاقا من أن«الطريقة الأكثر فعالية لتدمير شعب هو إنكار وطمس فهم ذلك الشعب لتاريخه» علي حد تعبير جورج أورويل في رائعته «مزرعة الحيوانات» وهو ما يدركه الذين ينقدون الذات ويسهون لإنقاذها من ألاعيب التدمير الذات العربية،
*
وإني لأتساءل : من منا لم يتقبل الأعمال العظيمة لمفكرينا وأدبائنا وفنانينا في عالمنا العربي والإسلامي، التي تنتقد الأوضاع في كليتها وفرادتها..؟ من منا لم يرحب بالأفكار التنويرية التي نقلتنا ولا تزال تنقلنا من أعماق الظلمات إلى آفاق النور ..؟.
المبدعون العرب في روائعهم السردية وقد تلقاها الناس أيضا عبر الدراما بكل أنواعها، شرَّحوا الذات بمباضعهم الفكرية، وضمدوا جراحها ، ليجددوا دوراتها الدموية، ويضخوا دماء جديدة في شرايينها حتى لا تتصلب أو تتكلس، وها هم يناضلون ويقاومون بأعمالهم وأقلامهم وأفكارهم وأطروحاتهم، من رحل منهم ، ومن لم يزل.. إذ إن للأفكار أرواحا تخترق الزمان والمكان، زو كما قال فيلسوفنا العظيم «ابن رشد»: «للأفكار أجنحة».
وتتجلى أمثلة،لا أول لها ولا آخر، ففي مصر توفيق الحكيم، وزكي نجيب محمود، ويوسف ادريس ونجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس وثروت اباظة ومصطفى محمود وحسن حنفي وغيرهم، وهناك نزار قباني ومحمد الماغوط ودريد لحامفي سوريا، والطيب صالح في السودان، ومحمد اقبال في باكستان، ومالك بن نبي ومحمد اراكون والطاهر بن جلون والطاهر وطار، وسعيد يقطين في دول المغرب العربي، وفي الخليج قامات فكرية ناقدة كبيرة وكثيرة..
*
كل أولئك وغيرهم كثر في عالمنا الإسلامي العظيم الذي يتمايز بأن جذوره ضاربة في عمق الزمن والتاريخ، جذور ليست في الهواء كما في المجتمعات التي تصدر سياطها المريبة لجلد ذاتنا في أوروبا وامريكا ( بنت إمبارح) على حد التعبير الشعبي الساخر، ومع ذلك فهم غارقون في وحل لعبة جلد الذات، حتى الطمس والقهر والتشويه والتشويش، والتوهان بغزارة في عصر الإستعارة..!.
أكثر من نقدوا الذات في عمومها وخصوصيتها الشاعر الكبير نزار قباني، حين كتب المهرولون ومتى يعلنون شهادة وفاة العرب، وقد سألته ذات مرة لماذا هذه القسوة على الذات؟ قال لي« أنا لا أزال وسأظل متعبا بعروبتي»
وكذلك الكاتب السخر محمد الماغوط وروائعته مع الفنان دريد لحا كإسك يا وطن» وهو القائل بألم وأمل ف«ي أيتها الأمة النائمة .. ألا يحق لعقولنا أن تتأثر بهذا الفيض من المعارف والعلوم والتكنولوجيا التي تحيط بنا.وهل يتوجّب على عقولنا أن تبقى رهينة مئات السنين وتنهل منها كلّ العلوم لطالما كانت صالحة لكل زمان ومكان …… كما تدّعون ولو كانت صالحة لماذا بقينا على تخلفنا، ..ولماذا لم يأخذ منها الغرب(….)عندما نضع الحصان لفلاحة الارض …والحمار للسباق فلن نجني خيرا ولن نكسب الرهان ..! ويسأل باستنكار هل يتوجب علينا أن لا نخرج من عباءاتهم ..أن نقتدي بهم .. أن نمتثل لهم .. أن نتعلم منهم وأن ننتقم لهم وأن نبكي عليهم .. وأن نسير في مواكب تشييعهم وأن نزور أضرحتهم حتى اليوم .. ١٤٠٠ عام ونحن نفسر ماذا قالوا ولماذا قالوا وماذا كانوا يقصدون .
وها هو الفنان عادل إمام مع الذين كتبوا وأخرجوا روائعه الدرامية عامة التي تنتقد المؤسسة السياسية والاجتماعية بمهارة وبدون اراقة دماء!.
*
وما أعظم توصيف استاذنا الفيلسوف زكي نجيب محمود في اطروحته« العُروبة ثقافة لا سياسة» : ليست عروبة العربي قرارًا سياسيًّا تُصدِره مؤتمرات القمم أو مؤتمرات السفوح والوديان، بل هي مركَّب ثقافي يعيشه في حياته اليومية، لا يستطيع العربي نفسه أن ينسلخ عنه إذا أراد، وأن يعيده إليه إذا أراد، لا … ليست عروبة العربي قميصًا يلبَسه إذا شاء ويخلعه إذا شاء، بل هي خصائص توشك أن تبلغ منه ما يبلغه لون الجلد والعينين، فهي مجموعة من القيم والعادات وطرائق النظر يتداخل بعضها في بعض تداخُل الخيوط في قطعة النسيج.
وإليكم بعض من طرح للمفكر الخليجي د.عبد الله القفاري:أما كفانا جلدا للذات؟! من يريد من المفكرين والباحثين ان يقدم لأمته خيرا، فلا يجب ان يتوقف عند حدود كشف التباسات الماضي، ولا ان يظل يصارع خصومه بالنبش في المصادر القديمة لإدانة قراءة أخرى.. بل عليه أيضا ان يكشف طريقا او مشروعا لا يصادر إرث العرب لأن هذا محال، ولكن يعترف بأخطائه ويكشف التباساته، ويقرأه في ظروفه التاريخية، ويضع يده على العوامل التي جعلت الاخفاق مشروعا دائما في بلاد العرب دون ان يهمل كذلك المؤامرة الحاضرة لوأد مقومات الصعود في منطقة هي اليوم من أشد مناطق العالم توترا وصراعا.
*
ومن منطلق ثقافة الأسئلة، والسؤال نصف الجواب، أضم هدير قلمي وأملي وألمي إلى الأصوات التي تهدر في الميديا ( المحترمة): لماذا نلجأ لجلد ذواتنا دائمًا عندما نُصدم فى الآخرين ونحملها هى كل الذنب أنها افترضت حسن النوايا، فقط لأنها صادقة ؟ لماذا نتلذذ بإيلام أنفسنا وتعذيبها وهى لم تكن تنوى سوى الخير؟ لماذا نلومها وهى كانت تبحث فى قلوبهم عن الأمان ولم تبحث عن الهوان ؟ لماذا نعاتبها بدلاً من معاتبة من تسبب فى نزف جروحنا ؟ لماذا نقسو عليها .. وهى من تتألم من قسوة الوحدة والحزن ؟ ألا نكتفى بما سببه الآخرون من آلام لنا ؟! لماذا نجلد ذاتنا .. ونبحث عن لذة الألم ؟ جلد الذات ولذة الألم أما آن لنا أن نحتضن أنفسنا ونداوى جراحها ؟ أما آن لنا أن نتناسى كل من تلذذوا بآلامنا ونخرجهم من ذاكرتنا ؟ أما آن لنا ان نهجر من هجرنا ونعرف أنه لم يكن أبدًا لنا ؟ أما آن لنا أن نحب أنفسنا ؟
نرى … هل من مدكر؟!!