أخيراً بات فى مقدور إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن تنفس الصعداء، فقد أعلنت إيران عن تحديدها يوم 29 نوفمبر الحالى موعداً لإجراء الجولة السابعة من مفاوضات فيينا الخاصة بالاتفاق النووى الإيرانى، بعد أن توقفت ما يقرب من خمسة أشهر مضت منذ إجراء الانتخابات الرئاسية الجديدة وفوز الرئيس المحسوب على تيار التشدد رئيساً للجمهورية خلفاً للرئيس السابق حسن روحانى، الذى أجرت حكومته 6 جولات من المفاوضات مع ممثلى القوى الدولية فى فيينا دون أن تتوصل إلى حل يعيد الولايات المتحدة إلى هذا الاتفاق بعد انسحابها منه فى أغسطس 2018 ويعيد إيران مجدداً إلى الالتزام بأصل الاتفاق الموقع عام 2015. الآن وقد أعلنت إيران عزمها العودة إلى التفاوض فى فيينا مع القوى الدولية تجد الإدارة الأمريكية نفسها محاصرة بضغوط هائلة من شأنها أن تحاصر قدراتها على طرح خيارات إيجابية تحقق الأهداف والمصالح الأمريكية. أول هذه الضغوط التحريض الإسرائيلى المكثف ضد الإدارة الأمريكية من أجل منع الإدارة الأمريكية من العودة مجدداً إلى مفاوضات فيينا، ووضع الإدارة الأمريكية أمام أحد خيارين: إما الاستمرار فى موقف الانسحاب من الاتفاق النووى والالتزام بقرار إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب ممارسة أقصى وأقسى عقوبات ضد إيران وإصدار المزيد من هذه العقوبات الاقتصادية ضدها، شرط أن تقترن بالتلويح بعقوبات سياسية وأخرى عسكرية، مثل التهديد الفعلى بالخيار العسكرى ضد إيران، وإما الانخراط الفعلى مع إسرائيل فى مواجهة عسكرية ضد إيران تستهدف تدمير كل القدرات النووية والصاروخية الإيرانية والقضاء نهائياً على الخطر الإيرانى. ما كتبه دينيس روس الأسبوع الماضى فى مجلة «فورين بوليسى» من إشارة واضحة إلى أن إيران تقترب من «العتبة النووية» أى امتلاك القنبلة الذرية ودعوته الإدارة الأمريكية إلى التهديد الفعلى لإيران بالخطر العسكرى ، وجد ما يدعمه من مواقف متشددة وانفعالية لقادة كيان الاحتلال الإسرائيلى، كان آخرها ما أعلنه نفتالى بينيت رئيس الحكومة الإسرائيلية أن إسرائيل «ستفعل كل المطلوب لحماية نفسها من التهديد الوجودى الإيرانى» حسب ما نقلت عنه صحيفة «جيروزاليم بوست» فى مشاركته بندوة افتراضية عقدتها مجموعة «متحدون ضد إيران نووية» الأمريكية بمشاركة مسئولين سابقين فى إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب. نفتالى بينيت قال أمام هذه الندوة «لن نتعب 00 وسنفعل 00 ما علينا فعله» ثانى هذه الضغوط التيار المتشدد داخل الكونجرس الأمريكى، خاصة من جانب الأعضاء الجمهوريين فى مجلس الشيوخ. فقد أكد عدد من قادة الحزب الجمهورى فى الكونجرس أن «أى اتفاق نووى سيتم توقيعه بين إدارة الرئيس جو بايدن مع إيران سيتم اعتباره (ملغياً) حال استعادة الحزب الجمهورى السيطرة على الكونجرس». وقالت رسالة للقادة الجمهوريين موجهة لإيران عبر صحيفة «واشنطن فرى بيكون» إن بايدن «لا يملك سلطة الوعد برفع العقوبات إلى الأبد»، مؤكدين أن الرئيس الأمريكى ليست لديه سلطة قانونية للتحدث باسم الكونجرس . هذه الرسالة الجادة وصلت إلى بايدن كما وصلت إلى الإيرانيين ومن شأنها أن تجعل فرصة التوصل إلى اتفاق يرضى كل الأطراف شبه مستحيلة، خاصة أن إيران وضعت ضمن شروطها للعودة إلى اتفاق فى مفاوضات فيينا أن تلتزم الإدارة الأمريكية رسمياً عدم الانسحاب مجدداً من هذا الاتفاق فى حال التوصل إلى اتفاق بشأنه مرة أخرى . ثالث هذه الضغوط، التصعيد المتواصل فى الموقف الإيرانى، سواء بالتشدد فى منع تمكين الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الحصول على الصور والتقارير الخاصة بما يحدث داخل المنشآت النووية الإيرانية، أو بالإعلان عن تحقيق تقدم هائل فى امتلاك ما يؤهل إيران من أن تتحول إلى دولة نووية، أى امتلاك القنبلة، أو على الأقل أن تكتفى بأن تكون «دولة حافة نووية» أى دولة قادرة على صنع القنبلة دون الدخول فعلياً فى عملية إنتاجها.
فقد صدمت إيران الإدارة الأمريكية وحلفاءها الأوروبيين داخل مجموعة (5+1) بالإعلان على لسان بهروز كمالوندى المتحدث باسم الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية أن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة 20% أصبح حالياً 210 كيلو جرامات، وأن إيران تمتلك حالياً 25 كيلو جراما من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% . لم يكتف الرجل بذلك لكنه أكد أن علماء بلاده «يملكون القدرة على رفع نسبة التخصيب إلى 90% فى أى وقت» وهى النسبة المطلوبة لصنع القنبلة، الأمر الذى يعنى أن إيران باتت قريبة جداً من أن تصبح «دولة حافة نووية» أو أن تتجاوز كل القيود وتعلن امتلاك القنبلة .
الإيرانيون يؤكدون ذلك فى الوقت الذى يعلنون فيه التوجه مجدداً إلى فيينا للتفاوض حول الاتفاق النووى المأزوم منذ انسحاب الأمريكيين منه، وفى الوقت الذى يوثقون فيه تحالفاتهم مع الصين وروسيا ويعلنون على لسان وزير خارجيتهم حسين أمير عبد اللهيان، بتوافق مع نظيره الروسى سيرجى لافروف، ضرورة استئناف الصفقة النووية «بصورتها المتوازنة الأصلية التى صادق عليها مجلس الأمن الدولى، وأن هذا هو السبيل الوحيد لضمان حقوق ومصالح كل الأطراف المشاركة فى التوقيع على الاتفاق». البيان الذى أصدرته الخارجية الإيرانية عقب الاتصال الهاتفى بين وزيرى الخارجية الإيرانى والروسى طالب الأوروبيين والأمريكيين باعتماد «مقاربة واقعية وبناءة» من خلال تفادى المطالب المبالغ فيها والتى تتجاوز متطلبات الاتفاق النووى. ماذا عساه أن يفعل الرئيس الأمريكى أمام هذا الواقع شديد التعقيد، هل سيتفاوض مدعوماً بشركائه الأوروبيين من أجل «مقاربة واقعية وبناءة» كما تريد إيران وتدعمها كل من روسيا والصين؟ وإذا وافق على ذلك كيف سيأمن عدم الانقلاب الأمريكى مستقبلاً على هذا التوافق الجديد، ومن أين له أن يأتى لإيران بضمانات تؤكد ذلك وتطمئن الإيرانيين؟ أم أنه سيأخذ بالضغوط الإسرائيلية المدعومة بالجمهوريين الأمريكيين المتشددين وينساق نحو خيارات أخرى أكثر تشدداً ضد إيران سواء كان تصعيد العقوبات أو الخيار العسكرى؟ وإذا أخذ بهذا الاختيار هل لديه ما يؤكد قدرته على تنفيذه وتحمل تبعاته على ضوء التجربة الأمريكية المريرة فى أفغانستان ؟ هذا هو التحدى الذى لا يجد إجابة أمريكية حتى الآن .