من المقرر أن تكون الجولة السابعة لمحادثات العودة إلى الاتفاق النووى الموقع بين إيران والقوى الدولية الكبرى (مجموعة 5+1) قد بدأت أمس فى العاصمة النمساوية فيينا بعد توقف دام أكثر من خمسة أشهر بسبب انتهاء ولاية حكومة الرئيس السابق حسن روحانى ودخول إيران فى انتخابات رئاسية فى يونيو الماضى جاءت برئيس جديد هو إبراهيم رئيسى الأقرب إلى تيار التشدد فى إيران والأقرب إلى خط المرشد الأعلى السيد على خامنئى.
قبل أيام قليلة من موعد استئناف تلك الجولة فى موعدها المقرر أمس الاثنين تحدث البعض عن وجود احتمال لعدم بدء هذه الجولة بسبب رفض الطرف الآخر (الأمريكى والأوروبى على وجه التحديد) ما وصف بأنه تعنت إيرانى فى العلاقة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وعودة مديرها رافائيل جروسى خالى الوفاض يوم الأربعاء الماضى (24/11/2021) من طهران، لذلك جاءت الأيام الأخيرة حافلة بوابل من التهديدات لإيران خاصة من الأمريكيين والإسرائيليين . الأمريكيون كانوا حريصين على إقناع إيران بالعودة إلى المحادثات بنوايا حسنة والقبول بما سماه المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكى تيد برايس “عودة متبادلة بالامتثال للاتفاق النووى” ، وإقناع إيران بعدم التعنت فى طرح مطالب متشددة، وعدم المراهنة والمراوغة بكسب الوقت لحين امتلاك القدرة على صنع القنبلة لفرض أمر واقع جديد على المجتمع الدولى على نحو ما جاء على لسان المبعوث الأمريكى لإيران روبرت مالى الذى أكد فى حديث للإذاعة الوطنية العامة (إن. بى. آر) 25/11/2021 أن الولايات المتحدة (لن تكون مستعدة للوقوف مكتوفة الأيدى إذا استغلت الوقت فى فيينا لتقترب أكثر من اللزوم، من صنع قنبلة نووية”، لكنه لم يوضح ماذا يعنى بـ “أكثر من اللزوم”، كما لم يورد تفاصيل الخيارات الأمريكية فى مثل هذه الحالة، لكنه عاد فى مقابلة مع “بى.بى.سى ساوندز” بعد يومين (27/11/2021) أى قبل يومين فقط من موعد بدء استئناف المفاوضات ليقول “إذا كانت إيران تعتقد أن بإمكانها استغلال هذا الوقت لتعزز قوتها ثم تعود وتقول إنها تريد شيئاً أفضل فلن ينجح ذلك، وسنفعل نحن وشركاؤنا كل ما لدينا لمنع حدوث ذلك”. قراءة الموقف الأمريكى تكشف عن حقيقة مهمة هى أن إيران تعود إلى محادثات فيينا أقوى مما كانت بعد أن نجحت فى إنتاج كمية كبيرة من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، ما يجعلها أقرب إلى النسبة المطلوبة لصنع القنبلة وهى 90%، وأن فشل المفاوضات فى فيينا لن يكن خسارة كبيرة لإيران، بل ربما يكون مكسباً استراتيجياً حيث يكون فى مقدورها تحميل الطرف الآخر مسئولية الفشل وأخذ ذلك ذريعة لمعاودة تسريع عمليات التخصيب واستعجال الوصول إلى التحول إلى ما يسمى بأن تصبح دولة “حافة نووية” أى تمتلك القدرة على صنع القنبلة. وعلى الرغم من إدراك الأمريكيين أن إيران مازال أمامها مشوار طويل للتمكن من صنع سلاح نووى على نحو ما أوضح الجنرال كينيث ماكنزى قائد القيادة المركزية الأمريكية فى الشرق الأوسط، فإنهم كانوا حريصين على ردع إيران بما فيه الكفاية لإجبارها على القبول بخيار العودة المتزامنة مع الأمريكيين للاتفاق النووى، عبر كم هائل من التهديدات المباشرة والتلويح بانتهاج الخيارات البديلة ومن بينها “الخيار العسكرى”، والتى كان من أبرزها ما جاء على لسان الجنرال كينيث ماكنزى بأن قواته “مستعدة لخيار عسكرى محتمل إذا فشلت المحادثات فى فيينا”.
التشدد الأهم جاء من إسرائيل ، التى تتعامل مع قدرات إيران النووية باعتبارها موضوع “حياة أو موت” فإسرائيل التى تملك ترسانة نووية ضخمة يقف العالم كله، والغرب خصوصاً أمامها صامتاً “ترفض بالمطلق تمكين إيران من امتلاك قدرات نووية مدنية ناهيك عن القدرات النووية العسكرية”، وتسعى جاهدة لتدمير القدرات النووية الإيرانية بالقوة العسكرية باعتبار ذلك “الخيار المأمون” للقضاء على ما تعتبره تل أبيب “تهديداً وجودياً إيرانياً”.
تحليل الموقف الإسرائيلى من استئناف محادثات البرنامج النووى الإيرانى فى فيينا يكشف صدقية المثل الذى يقول “الصراخ على قد الوجع” فهم داخل الكيان الإسرائيلى يعملون بكل السبل المتاحة وغير المتاحة لعرقلة استئناف تلك المحادثات ويرفضون العودة الأمريكية للاتفاق النووى ويضغطون على الإدارة الأمريكية للانخراط فى الخيار البديل للدبلوماسية عبر توجيه ضربة عسكرية مشتركة مع الأمريكيين لتدمير القدرات النووية الإيرانية.
استخدمت إسرائيل كل أشكال التحريض والترويع ضد إيران، لمنع واشنطن من استئناف المحادثات والعودة للاتفاق النووى، وبعد أن فشلت بدأت بالتهديد بخيار “الاعتماد على النفس” وعدم الركون إلى الموقف الأمريكى على نحو ما جاء مؤخراً على لسان رئيس الحكومة نفتالى بينيت أمام “المؤتمر الأمنى – السياسى لمعهد السياسات والاستراتيجية فى جامع (رايخمان) فى هرتسيليا”. فقد صرح بينيت بأن “إسرائيل ليست طرفاً فى الاتفاق النووى ولن تكون ملزمة به” وأضاف “يجب على إسرائيل أن تأخذ زمام المبادرة تجاه إيران وتحافظ على حرية العمل والقدرة على العمل ضد طهران”. واختتم قائلاً “يتعين على إسرائيل مهاجمة الإيرانيين أنفسهم فى طهران وليس مهاجمة وكلائها فى المنطقة”. إيهود أولمرت رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق شكك فى جدية هذه التهديدات واعتبرها مجرد محاولة ابتزاز لواشنطن لـ “قبض الأثمان” مؤكداً أن إسرائيل لن تحارب إيران. المعنى نفسه أشار إليه روبرت مالى عشية انطلاق محادثات فيينا فى حديث مع الإذاعة الوطنية الأمريكية (الجمعة 26/11/2021)، عندما تحدث عن خيارين متاحين أمام إيران فى هذه المحادثات (إما العودة للصفقة)، وكسب التعاون الأمريكى – الخليجى، وإما (إفشال المحادثات) حيث أوضح أن الدول الخليجية باتت مستعدة لقبول اضطراري لعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق أملاً فى جدية الضمانات الأمنية الأمريكية، أما إسرائيل فقال “إنهم يعارضون الصفقة ويحاولون إيقافها” وزاد بقوله “إنهم يأملون فى حال فشل المفاوضات أخذ واشنطن نحو الخيار العسكرى”. هكذا تتكشف المواقف والرهانات .. حيث يسعى الجميع إلى أن يخرج وفى يده أعلى المكاسب.. فما هى رهانات إيران كى تكون هى الأخرى ضمن الفائزين؟