مرة ثالثة أجدني أتحدث عن مستنقع ٱخر ربما ٱراه أنه أكثر أهمية مما تحدثت في المقالاين السابقين حيث تناولت مستنقع الأخبار الكاذبة ومستنقع الإسفاف !
و نتحدث اليوم عن مستنقع الفساد المتجذر في بنية الدولة العميقة ورغم وجوده منذ أن ظهر الإنسان على ظهر البسيطة إلا أنه علينا مواجهته بشتى الطرق ولا اعتباره أمرا واقعا علينا قبوله والتعايش معه!
وتأتي أهمية تناول ملف الفساد أن مصر استضافت هذا الأسبوع أعمال الدورة التاسعة لمؤتمر الدول الأطراف الموقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وهو الحدث الأكبر في مجال منع ومكافحة الفساد على مستوى العالم
وترى الأمم المتحدة أن المؤتمر يعد علامة فارقة عالمية لتحسين التعاون الدولي ضد الفساد وانضمت مصر للاتفاقية بأواخر عام 2003 إيمانا منها بأهمية التضافر الدولي لمنع الممارسات الفاسدة حول العالم.
إن الفساد فضلا عن أنه قاتل للقيم والأخلاق يعد احد أسباب فشل التنمية في المجتمعات خاصة ذات الاقتصادات الناشئة ويفرض نمطا إداريا مريضا وهشا !
ويصلني يوميا العديد من الشكاوى والاستغاثات من مواطنين يشكون مر الشكوى من تغول الفساد والفاسدين سواء على مستوى المحليات أو الأجهزة الحكومية و القطاع الخاص والشركات التي تتعامل مع الجمهور من خلال الإنترنت ! .
ويجب التأكيد على أن لدينا في مصر أجهزة رقابية يجب أن نرفع لها القبعة ونوجه التحية لها لرجالها الذين يصلون النهار بالليل في محاولة للتصدي لهذه الظاهرة التي أصبحت تزكم الأنوف في كثير من المجالات ! .
ولكن دعونا قبل أن نلقي الضوء على بعض نماذج الفساد لابد أن نُعرف المعنى الإصطلاحي لمفهوم الفساد حتى لا يقع البعض في مأزق الخلط بين الأمور فيحسبه أمرا عاديا !
الفساد هو انحراف أو تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة والمحسوبية والتربح .
وقد يعنى الفساد أيضا الإتلاف إذا ارتبط المعنى بسلعة ما وهو لفظ شامل لكافة النواحى السلبية في الحياة.
و يعني الفساد بمفهومه العام التغير من الحالة الصحيحة إلى الحالة الخطأ وغير السوية !
وفي اللغة إذا فسد الشيء تحلل أو تعفن
بعبارة أخرى يعتبر الفساد نقيض الصلاح ويُراد بهذا المصطلح وصف حالة خروج الأشياء عن الإعتدال سواء أكان خروجاً بسيطاً أم شديداً، ويقول العرب فسد العقل بمعنى أصابه الاضطراب وأدركه الخلل، ويقولون فسد اللحم بقصد وصف تلفه ونتنه !
أمّا اصطلاحاً فالفساد وفقاً لما عرفته العديد من المنظّمات الدوليّة والهيئات القانونيّة المعنيّة بقضايا الفساد، هو ذلك السلوك اللأخلاقيّ المتمثّل باستغلال ذوي المناصب الإداريّة أو السياسيّة للسلطات والصلاحيات الممنوحة لهم بشكل غير قانونيّ لتحقيق منافع خاصة او شخصيّة.
ويقف وراء تفشي ظاهرة الفساد في المجتمعات العديد من العوامل الاقتصاديّة والسياسيّةو الاجتماعية
إذن يشكل الفساد إساءة استخدام المنصب أو الموارد ، وهو من الآفات الخطيرة التي تنخر في جسد المجتمعات والدول، ويترك آثارًا سلبية، ويُلقي بظلاله على عجلة التطوّر فيوقفها، مما يُسبب شرخًا في بنيان الدولة، ومنعه مبنيّ على محاسبة الفاسدين بشكلٍ صارم، لإجبارهم على عدم الاستمرار في استهتارهم وفي استغلال سلطاتهم والتربح من ورائها والتحكم في ارزاق الغير !
إذن المحاسبة وإعمال القانون عوامل مهمه تردع الفاسدين ولكن تسبق هذه الخطوة خطوة أهم هي القضاء على البيئة الحاضنة له والتي تساعد في تنامي الفساد خاصة المالي والإداري !
ويعتقد معظم الناس أن الفساد هو الرشوة فقط لكن المعنى المتقدم يدلنا على أن مساحة الفساد أوسع بكثير ونسوق فيما يلي ستة نماذج من أشكال الفساد على سبيل المثال لا الحصر :
١) إهدار المال العام في مشروعات خاسرة تتم بالأمر المباشر وبلا جدوى اقتصادية ونجدها خصوصا في المحليات التي تعمل بعيدا عن الرقابة المركزية حتى وإن ادعى البعض أن القطاع الخاص يهدي بعض المشروعات ولا يجري الصرف عليها من ميزانية الدولة ثم بعد ذلك يستفيد هذا القطاع الخاص من مشروعات أخرى وتسهل السلطة المختصة منحها له في وقت لاحق للتحايل على القانون !
٢) يعتبر سوء التخطيط بشكل يؤدي إلى تأخير أو عدم إعطاء الحقوق لمستحقيها نوعا من الفساد الناجم عن الجهل بالإدارة الرشيدة فإذا كان لديك موارد تدر عائدا وتفشل في ادارتها بشكل لا يمكنك من إعطاء حقوق العاملين لديك فهذا يدل على عدم تقديرك للموارد الحقيقية أو سوء تصرف في عوائد الموارد وفي كلتا الحالتين اعتبره فسادا إداريا يستوجب المحاسبة نظرا لضياع الحقوق !
٣) تحميل المواطن قيما مالية بما يخالف الحقيقة حتى وإن كان العائد سيوجه للخزينة العامة مثلا شراء استمارات وحافظات بمبالغ كبيره مقابل خدمة عامة أو دفع مقابل كبير لأمور لاتساوى سوى جنيهات قليلة
٤) بعض الخدمات يتلكأ الموظف العام في أدائها رغم دفع المواطن ثمنها حتى يُدفع له مبلغ من المال تحت مسميات الاكرامية والشاي والدخان وما الى ذلك من التعبيرات السوقية والتي لا تعني غير كلمة واحدة الرشوة ونجدها في تعدد الشبابيك التي يتعامل المواطن معها في مرافق خدمية مثل المرور والتراخيص والشهر العقاري والتأمين الصحي رغم قيام الدولة بمحاولة اختصار الإجراءات !
٥) عدم الاهتمام بمصالح الناس وسوء معاملتهم والتعمد في تأخير المصالح والوقوع في أخطاء يتحملها المواطن ويدفع أموالا مقابل تصحيح اخطاء لم يرتكبها غير تضييع الجهد والوقت في تنقل المواطن بين المكاتب وهذا نوع اخر من الفساد الناتج عن الإهمال !
٦) تشتري سلعة معروضة في مواقع الانترنت لأسماء شركات معروفة وعندما تصلك السلعة تكتشف أنها غير مطابقة للمواصفات والغرض الذي اشتريتها من أجله أو أن السلعة ردئية أو أجهزة لا تعمل وترفض هذه الشركات استرجاع السلع المعيبة ورغم الجهد الذي يبذله جهاز حماية المستهلك إلا أنه غير قادر على مواجهة فساد الذمم
وخداع الجمهور ولجأت له شخصيا في مواقف عديدة ولكنه وقف عاجزا عن فعل شيء أو استرجاع حق أو عقاب الجهة المبلغ عنها !
إن ما تقدم بعض النماذج من العديد من الأمثلة الدالة على الفساد الذي اعتبره أكثر خطورة من الإرهاب على المجتمع وفي تصوري إذا نجحت الدولة في إجتثاث هذه الظاهرة من جذورها سينعكس ذلك إيجابيا على حل مشكلات يومية حياتية يعاني منها المواطن !
وكما أسلفنا إن منع تكون الظروف الموضوعية لنمو الفساد سيساهم في الحد منه من خلال :
اولا : تفعيل قوة إنفاذ القانون لمحاسبة كل من تدفعه اطماعه السقوط في مستنقع الفساد
ثانيا : عدم التستر على الفاسدين والمفسدين بأي صورة من الصور مثل التعتيم والتهوين!
ثالثا : عدم التعامل بمعايير مزدوجه مع هذه الظاهرة التي تعتبر جرائمها معوقات للاستقرار والتنمية المجتمعية ! .
وأعتقد أن جهازا سياديا مثل الرقابة الإدارية يتعامل مع الجميع على حد سواء بلا أي استثناءات ويضعهم تحت المجهر!
ومن ٱن لأخر نسمع عن قضايا فساد وسقوط مرتشين بأيدي رجال الرقابة الإدارية الشجعان ما يدل على أن الحرب على الفساد مستمرة !
خلاصة القول ليس لدي في النهاية غير أن نتذكر جميعا قول الله سبحانه تعالى في سورة الروم: ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون) صدق الله العظيم