بينما كانت محادثات الجولة الثامنة التى تجرى فى العاصمة النمساوية فيينا حول الاتفاق النووى الإيرانى الموقع عام 2015 تتجه نحو “تفاؤل حذر” مع بدء مناقشة الأطراف الدولية المشاركة فى تلك المحادثات خاصة الترويكا الأوروبية (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) للمقترحين الإيرانيين اللذين كانا سبباً لإنهاء جلسة المحادثات السابقة يوم الجمعة (3/12/2021)، صعد قادة الكيان الإسرائيلى من تأكيد جديتهم فى الأخذ بـ “الخيار العسكرى” لمنع إيران من التحول إلى قوة نووية، أى مالكة لسلاح نووى، أو حتى الوصول إلى ما يُعرف بـ “العتبة النووية” التى تعنى الوصول إلى القدرة على صنع القنبلة دون البدء فى صنعها. هذا التوجه الإسرائيلى وصل ذروته بانخراط كبار قادة الكيان، بدءاً برئيس الحكومة نفتالى بينيت ورئيس الدولة هيرتسوج ووزير الحرب بينى جانتس ورئيس الأركان الجنرال أفيف كوخافى، فى توجيه تهديدات مباشرة ليس فقط لإيران بل وللمجتمع الدولى وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية، بأن “إسرائيل لن تتردد فى الدفاع عن نفسها فى مواجهة خطر يهدد وجودها” حتى لو أخذت بخيار الاعتماد على النفس على نحو ما جاء على لسان الرئيس الإسرائيلى الذى أكد أنه “إذا لم تتخذ الأسرة الدولية الخطوات اللازمة لإحباط المشروع النووى الإيرانى فإن إسرائيل ستضطر إلى الدفاع عن نفسها بنفسها”.
وعلى الرغم من كل هذه التأكيدات فإن الحديث المسيطر الآن داخل أروقة مؤسسة الحكم الإسرائيلى يدور حول “حالة الارتباك” المسيطرة على مواقف وتقديرات تلك المؤسسة بخصوص مدى جدية قدرة إسرائيل على ضرب المنشآت النووية الإيرانية دون المشاركة الأمريكية من ناحية، ومدى قدرة إسرائيل على تحمل تبعات التورط فى حرب شاملة مع إيران وأعوانها فى حال شن ذلك العدوان. المراقبون والمحللون الأمنيون فى إسرائيل يتحدثون حالياً عن حالة من “عدم اليقين” بخصوص الأمرين معاً: أى قدرة إسرائيل على تدمير المنشآت النووية الإيرانية بضربات جوية، ومدى قدرة إسرائيل على تحمل تبعات التعرض لحرب شاملة من إيران وأعوانها رداً على تلك الهجمات. يقول هؤلاء الخبراء إن مناصرى الخيار العسكرى الإسرائيلى ضد إيران “يفتقدون لليقين بخصوص النتائج المتوقعة.. لذلك فإن الخشية من الانعكاسات المأساوية لهذا الخيار تجعل حساباته مرتبكة”. صحيفة “هآرتس” ألقت الضوء على هذا القدر الكبير من الارتباك لدى المسئولين الإسرائيليين وأكدت أن “شخصيات تعمل على الاستعداد لعمل عسكرى ضد إيران تعتقد أنه حتى فى السيناريو الذى ستهاجم فيه إسرائيل كل المنشآت ذات الصلة بالبرنامج النووى سيتمكن الإيرانيون فى مرحلة ما من استعادة المعرفة والقدرات”، لكن ما هو أهم هو قدرة إيران على توجيه “الضربة الثانية” فى حرب شاملة، قد لا تستطيع إسرائيل تحمل تبعاتها خاصة على مستوى “الجبهة الداخلية” ، وخلاصة رأى كبار المسئولين فى المؤسسة العسكرية هو أن “عملاً عسكرياً يجب تنفيذه فقط إذا كانت نتائجه ألا تتمكن إيران من استعادة برنامجها النووى”، وبالتحديد يجب أن تكون هذه العملية “سهماً فى قلب المشروع النووى الإيرانى”، وهذا ما يقر الخبراء بافتقار إسرائيل إليه. تأكيد صعوبة، إن لم يكن استحالة، تحقق هذا الشرط جاءت على لسان الخبير العسكرى القريب من المؤسسة الأمنية عاموس هارئيل فى صحيفة “هآرتس” الذى كتب أن التقارير والتصريحات الإسرائيلية التى جرى الترويج لها خلال الأيام الماضية خلقت “انطباعاً مضللاً” بأن محادثات فيينا ستنتهى بنتيجة سيئة لإسرائيل وأنه من المؤكد أن تهاجم إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية، لكن الوضع يختلف كثيراً عن هذا الترويج ، مشيراً إلى أن الخطط العملياتية التى يجرى الحديث عنها لضرب إيران “ربما تنقضى بضع سنوات قبل أن يتم فحص هذا الأمر بجدية”، ما دعاه إلى تقديم توصيف بليغ ودقيق فى ذات الوقت لما يراه “هياجاً إسرائيلياً” بخصوص الخيار العسكرى ضد إيران يقول فيه إن “إسرائيل تلوح بمسدس فارغ من الذخيرة ضد إيران”، ومشيراً إلى أن “حزب الله” فى لبنان “أضحى على عتبة القدرة على إنتاج ذاتى لمنظومات زيادة الدقة للصواريخ التى بحوذته”. وأنهى هارئيل تحليله بتساؤل حرج يستند إلى تقديرات جادة للقدرات الإيرانية والإسرائيلية فى حال نشوب حرب شاملة كرد فعل على عدوان تدبر له إسرائيل ضد المنشآت النووية الإيرانية، يقول هارئيل فى هذا التساؤل: “هل يجب علينا مهاجمة المواقع النووية داخل إيران والمخاطرة بنشوب حرب شاملة”؟ الإجابة سبقه إليها المحلل الاستراتيجى الإسرائيلى يوسي ميلمان المعروف بصلاته الوطيدة مع المؤسسة الأمنية. فقد أجاب بالنفى فى مقال نشره بصحيفة “هآرتس” وقال إن “إسرائيل لا تملك القدرة العسكرية لتوجيه ضربة للبرنامج النووى الإيرانى” ، مشدداً، نقلاً عن مصادر أمنية رفيعة فى تل أبيب، أنه “فى حال تنفيذ الهجوم فإن عواقبه ستكون وخيمة”، ولذا اقترح على قادة كيان الاحتلال الإسرائيلى “تبنى استراتيجية جديدة وشجاعة لمواجهة البرنامج النووى الإيرانى” ملخصها التوصل إلى تفاهم إسرائيلى مع الولايات المتحدة لمنحها “مظلة نووية”، مؤكداً أن هذه هى الإستراتيجية المطلوبة الآن لأن هذه المظلة النووية تعنى أن أى تهديد نووى تشكله إيران تجاه إسرائيل، حتى لو كان تلميحاً، سيواجه بتهديد أمريكى ضد إيران باستخدام أسلحة نووية كما هو الحال مع كوريا الجنوبية التى تواجه غريمتها النووية أى كوريا الشمالية”، مؤكداً أن “نشر المظلة النووية الأمريكية هو الضمان النهائى لردع برنامج إيران النووى، ولخطر تطوير سلاح نووى إيرانى”. إجابة ملتسبة، إن لم تكن مضللة، تخفى وراءها الكثير من الحقائق؛ أولها أن إسرائيل بالفعل تملك المظلة النووية الذاتية وليست فى حاجة لمظلة نووية أمريكية، فهى دولة نووية منذ سنوات، وثانيها أن إسرائيل أول من يدرك أن إيران فى حال امتلاكها السلاح النووى إذا كانت ستسعى إلى ذلك، لن تفكر يوماً فى استخدامه ضد إسرائيل لأنه سلاح غير قابل للاستعمال، وثالثها أن ما يهم إسرائيل من إشغال العالم بالخطر النووى الإيرانى هو القضاء على أى طموح إيرانى لكسب المكانة الإقليمية ومنازعة طموح إسرائيل لتكون القوة العظمى الإقليمية المهيمنة دون منافس باعتبار أن ذلك هو السبيل الأوحد لفرض المشروع الإسرائيلى على كل إقليم الشرق الأوسط .