من حق نفتالى بينيت رئيس حكومة كيان الاحتلال الإسرائيلى أن يصف نفسه بأنه “من الجناح اليمينى” وأنه “مازال يعارض إقامة دولة فلسطينية”، لكن ليس من حقه أن يحجر على حق الشعب الفلسطينى فى أن يقيم دولته الوطنية المستقلة على الأرض التى احتلها الإسرائيليون، وليس من حقه أن يمنع الشعب الفلسطينى أن يقاوم لاسترداد حقوقه المغتصبة. ومن حق نفتالى بينيت أن يعلن أنه، كرئيس لحكومة إسرائيل “لن يلتزم بأى اتفاق يمكن التوصل إليه بين إيران والقوى الدولية بخصوص العودة الأمريكية والإيرانية للاتفاق الموقع عام 2015 بين إسرائيل والقوى الدولية الكبرى بخصوص البرنامج النووى الإيرانى، ومن حق نفتالى بينيت أن يهدد إيران وأن يلوح بالخيار العسكرى لتدمير قدرات إيران النووية، لكن ليس من حقه أن يمنع إيران من الرد على أى عدوان تتعرض له من إسرائيل وبالشكل وبالمستوى الذى تراه إيران مصلحة وطنية لها.
قد تكون هذه أمور بديهية، من المؤكد أن نفتالى بينيت يعلمها جيداً، لكن ما هو أهم من هذا كله هو أن ما يعلنه نفتالى بينيت من رفض لإقامة دولة فلسطينية، أو رفض لاسترداد الشعب الفلسطينى حقوقه المشروعة، أو رفض للامتثال لأى اتفاق يحتمل أن يتم التوصل إليه مع إيران بموافقة حلفاء تل أبيب خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والترويكا الأوروبية المشاركة فى مفاوضات فيينا (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) هو أن هذا الرفض يتعارض تماماً مع ما يمكن اعتباره مصالح وطنية إسرائيلية، وأن المواقف المعلنة من نفتالى بينيت وقبله بنيامين نتنياهو وكبار قادة كيان الاحتلال من مدنيين وعسكريين يسير تماماً فى الاتجاه المعاكس لما تفرضه بديهيات مواجهة الخطر والتهديد الذى يحاصر هذا الكيان، وفقاً لما تصدره كبرى مراكز البحوث والدراسات الإسرائيلية المتخصصة بخصوص مصادر هذا التهديد.
فى الأسبوع الماضى أشرنا إلى مضمون المقالة المهمة لكل من عاموس جلعاد وميخائيل ميليشتاين وكليهما من أبرز العقول الاستراتيجية الإسرائيلية، وفى هذه المقالة المنشورة على موقع “N12” العبرى، تحدثا عن أربعة مصادر للتهديد هى على الترتيب: التحدى النووى الإيرانى المتفاقم، وإشكالية الاندماج الإسرائيلى مع الفلسطينيين فى الضفة الغربية، أى إشكالية مواجهة تداعيات الضم الإسرائيلى للضفة الغربية كإجراء متوقع، وحركة حماس فى قطاع غزة، أما التهديد الرابع فهو “أزمة الكيان فى العلاقة مع المواطنين العرب الذين يعيشون داخل كيان الاحتلال”.
هذه المصادر الأربعة للتهديد التى تجمع بين ما هو مصادر خارجية وما هو مصادر داخلية تتحدث عنها عشرات، وربما مئات الدراسات والبحوث وخاصة من المراكز البحثية المرموقة فى كيان الاحتلال، لكنها لم تحدث الأثر المطلوب، أو رد الفعل اللازم، الذى يسمى علمياً بـ “إدراك التهديد”، وهو العملية الأولى للبدء فى مواجهة التهديد ومصادر الخطر.
من أهم ما جاء ليؤكد ما ورد من تحديد لمصادر الخطر فى مقال كل من عاموس جلعاد وميخائيل ميليشتاين تلك الدراسة الحديثة الصادرة عن “معهد أبحاث الأمن القومى” الإسرائيلى، التابع لجامعة تل أبيب، الذى يعد من أهم مؤسسات دعم صناعة القرار فى الدولة العبرية، والتى تتنبأ بأهم التحديات الاستراتيجية المتوقع أن تواجه كيان الاحتلال خلال العام الجارى. وقد تم نشر هذه الدراسة يوم السبت (22/1/2022) على موقع “نيوز -1” العبرى. رصدت هذه الدراسة ثلاثة مصادر أساسية للتهديد هى: التهديد الإيرانى، والخطر الفلسطينى، وأخيراً التهديدات الداخلية فى كيان الاحتلال ذاته.
هذه الدراسة تعتبر أكثر شمولية فى رصدها للتهديدات، فهى وإن كانت قد تحدثت عن الخطر الإيرانى، فهى لم تكتف بالحديث عن الخطر النووى فقط، أو ما يمثله امتلاك إيران للسلاح النووى من تهديد وجودى لإسرائيل، لكنها تحدثت أيضاً عن خطر التفوق العسكرى الإيرانى وخاصة سلاح الصواريخ، كما تحدثت عن أذرع إيران الممتدة فى مناطق محيطة بكيان الاحتلال وتمثل تهديداً حقيقياً له، كما أنها تحدثت عن الخطر الفلسطينى فى مجمله سواء كان من الضفة الغربية المحتلة أم من قطاع غزة، واتسع ليشمل مصادر التهديد الكامنة فى كيان الاحتلال، ليس فقط التهديد الذى يمثله عجز الكيان وفشله فى ضم المواطنين الفلسطينيين المقيمين داخله، على نحو ما أكدت معركة “سيف القدس” الأخيرة التى كشفت مدى تجذر الهوية الوطنية الفلسطينية عند هؤلاء الفلسطينيين، وكيف أنهم، تحولوا فى لحظة “إلى قنبلة موقوتة تدافع عن القدس والأقصى وقطاع غزة”، فقد شملت الدراسة مصادر أخرى إسرائيلية بحتة، أبرزها تداعى “التماسك الوطنى” وافتقاد “المناعة الوطنية” وتفشى أمراض الانفراط وهشاشة الجبهة الداخلية وزيادة معدلات الهجرة المعاكسة من الكيان إلى الخارج.
هذه الدراسة تدحض كل ما حاولت حكومات إسرائيل إخفاؤه على مدى سنين طويلة من تجاهل للمصادر الحقيقية للتهديد وخاصة مصادر التهديد الداخلية. فقد حرص بنيامين نتنياهو طوال سنوات حكمه الاثنى عشر على حصر مصادر تهديد الأمن والاستقرار فى الشرق الأوسط، وليس فى إسرائيل فقط فى “الخطر الإيرانى” وعمل جاهداً على إعطاء الملف الإيرانى كل الأهمية والأولوية القصوى ونفى أى وجود للملف الفلسطينى، على أمل خلق قناعة دولية بما يريده نتنياهو من ترسيخ لإدراك عالمى أن القضية الفسلطينية قد ماتت ولم يعد لها أى وجود، وأن الخطر كله ينحصر فى إيران التى على العالم كله أن يتصدى لها.
هذه الدراسة وغيرها الكثير من الدراسات ، وخاصة منذ معركة “سيف القدس” التى تفوقت فيها المقاومة الفلسطينية فى قطاع غزة دفاعاً عن القدس والأقصى فى مايو الماضى، عاد الحديث مجدداً عن “الخطر الفلسطينى” بل امتد للحديث أيضاً عن “الخطر الإسرائيلى الداخلى” كمصادر تهدد أمن وسلامة إسرائيل، لكن ما تقوله الدراسات شئ وما يعلنه قادة الكيان شئ آخر. الفجوة آخذة فى الاتساع بين وجود الخطر وبين تجاهل قادة الكيان لمصادر الخطر، وما ورد على لسان نفتالى بينيت يوم الخميس الماضى (27/1/2022) فى حديثه مع صحيفة “إسرائيل هيوم” يكشف مدى عمق هذه الفجوة سواء بالنسبة لإدراك جدية الخطر الإيرانى ومن ثم كيفية مواجهته أو بالنسبة لإدراك وزن وخطورة الخطر الفلسطينى والخطر الإيرانى التى تستوجب سياسات للمعالجة الحقيقية بعيداً عن الشعارات الرنانة ، لأن التمادى فى هذا النهج من شأنه أن يجعل من كيان الاحتلال “نعامة غارقة حتى أذنيها فى بحار من الرمال”، لا تفيق منها إلا بعد أن يصل التهديد إلى منتهاه، وهذا أخطر ما تعيشه إسرائيل فى ظل مثل هذا النوع من القيادات .