إن الانتخابات النيابية ومسألة التمثيل الشعبي، هي من أكثر المواضيع تعقيداً، لأنها تحتاج إلى التوفيق، بين القانون الانتخابي والنظام الاجتماعي السائد. فهي في الأصل لا ترتكز إلى قواعد قانونية صرفة، وطرق رياضية لعد الأصوات واحتساب النتائج، بقدر ما هي في جوهرها، تعبير عن علاقة مركّبة بين الناخبين وممثليهم في الحكم، تتداخل فيها النظرية مع الإيديولوجية، فتتشابك الروابط؛ الدينية، والعرقية، والسياسية، والاجتماعية، وحتى العشائرية والعائلية، ودرجة الرقي والوعي الاجتماعي، لتتحوّل كلها إلى عوامل انتخابية، يجب أخذها في الحسبان.
لهذه الأسباب يختلف مفهوم ومستوى تطبيق الديمقراطية بين مجتمع وآخر. فقد تكون النتائج مختلفة تماماً، فيما لو تم تطبيق نفس النظام الانتخابي فيهما. فما يصح في دولة، ليس بالضرورة أن يصح ويعطي ذات النتيجة في دولة أُخرى .
وفي لبنان يكتسب هذا الموضوع أهمية خاصة، بسبب تركيبة المجتمع اللبناني، الذي يضم مجموعة أقليات دينية من ١٨ طائفة، من بينها ثمانية أصبحت أقليات صغيرة جداً. والأسوأ أن هذه الطوائف لا تأتمن بعضها، بل تخشى وترتاب من بعضها البعض، ولقد ترسّخ هذا الأمر، منذ قانون الملة العثماني، الذي وزّع المقاعد التمثيلية على أساس طائفي، وما زال هذا التوزيع معتمداً، حتى بات اليوم في مرتبة محصّنة بنظرية “حقوق الطوائف”، فلا يجوز المسّ به، (وربما بات يرتبط بعبادة الأجداد) ويستخدمه بعض المسؤولين كحصان طروادة، لنيل مآربهم في السطو على الوظائف في الدولة، واحتكار تمثيل الطائفة والمذهب في الحكومة والبرلمان .
إن النظرية حينما تُصبح ايديولوجية، فهي تتحول إلى معتقد، يصل أحياناً إلى مرتبة القداسة وعدم جواز التشكيك به، حتى لو واجهتنا مئات الحجج والبراهين المكذّبة لهذه الإيديولوجية، التي يتم من خلالها تبرير طريقة حياة الجماعة. وقد ينغمس المجتمع بها إلى الحد الذي يصعب معه النظر بموضوعية إلى الأمور، بل يُعدُّ التشكيك في الإيديولوجية تهديداً صريحاً للجماعة، وقد يقود الأمر إلى العنف في مواجهة أي اعتراض أو نقد أو حتى رأي آخر. فالتنازل من وجهة نظر البعض عن الإيديولوجية، التي ألِفَها لسنوات، عن طريق التنشئة الاجتماعية، والتي من خلالها بات يرى العالم، ويُبرر سلوكياته، هو أمر مرفوض بالمطلق.
يصعب على النظرية مهما كانت علمية ومنطقية أن تتحدى الإيديولوجية، لأن الشعب المشبع بفكر ايديولوجي، يرى أن أي معارضة، تُشكّل خطراً وجودياً عليه، وتُلغي مفاهيمه وعاداته، أي أنها تهدد نمط حياته المبني على هذه الركيزة. فلو حاولت انتقاد أي أيدولوجية دينية، سيواجهك أصحابها بالتكفير، وبأنك شخص ضال، ولو حاولت انتقاد ايديولوجية سياسية كالرأسمالية مثلاً، ستُتّهم بأنك شيوعي شمولي، أما اذا انتقدت الماركسية الشيوعية، فسيقال عنك أنك مخدوع بنظرية الديمقراطية الغربية والوعي الزائف.
لا أريد الغوص في متاهة الفلسفة، لكن لا بد من إيضاح هذه النقطة لأن المجتمع اللبناني غارق في ايديولوجيات مختلفة. ورغم وجود آلاف الحجج والبراهين التي تُظهر عدداً كبيراً من الأخطاء في هذه الإيديولوجيات، فإن قلة هم الذين يقبلون الحقيقة والنقاش في الأمر، لأن الخروج على ما اعتاده الإنسان، يتطلب شجاعة وحكمة وروية وعقلانية لفصل الإيديولوجية عن الواقع وتشريحها ونقدها بشكل موضوعي ومنطقي، فغالبيتنا يتصرف بشكل عاطفي وجداني، بدافع؛ الولاء، والإيمان، والسلطة، والانتماء؛ الاجتماعي، والسياسي، والمذهبي، فنُصبح أشخاصاً متحييزين، ولو بنسب متفاوتة فيما بيننا.
يسهل الوقوع في التعصب وبراثن الإيديولوجية، خاصة الدينية. وانطلاقاً من ذلك، فإن العامل الأقوى الذي يتحكم باقتراع اللبنانيين في هذه الانتخابات، كما بسابقاتها، هو العامل الطائفي والمذهبي.
يتوزّع الناخبون في لبنان على أربع فئات:
١- فئة غير الموجودين : عند التدقيق في لوائح الشطب سنجد أن هناك عدداً لا بأس به من الأخطاء، إضافة إلى أسماء الأموات، وأشخاص تركوا لبنان منذ عقود، وحتى قبل الحرب العالمية الثانية. ونسبة هؤلاء تتفاوت بين منطقة وأخرى، وقد تصل في بعض القرى إلى حوالي ٧ ٪ . وهذا شي لا مبرر له ويجب على وزارة الداخلية تصحيح هذا الخطأ.
٢- فئة غير المهتمين بالانتخابات. هؤلاء موجودون في الداخل وكذلك خارج لبنان. والدليل على ذلك هي نسبة الاقتراع المنخفضة، التي عادة تكون بحدود ٥٠٪ أو أكثر بقليل.
تَسجّل في الخارج للانتخابات هذا العام حوالي ربع مليون ناخب لبناني في ٤٠ دولة، فيما تشير التقديرات إلى أن عدد اللبنانيين والمتحدّرين من أصل لبناني في الخارج يفوق هذا العدد باضعاف، حتى ان البعض يقدر عددهم بحوالي ٨ مليون نسمة.
أما في الداخل فنسبة غير المهتمين بالانتخابات تتراوح بين ٢٠٪ إلى٤٠٪ بحسب كل منطقة، وهؤلاء تدفعهم إلى ذلك أسباب مختلفة :
فالبعض يشعر بان لا قيمة لمشاركته في الانتخابات ولا تأثير لصوته، وذلك غالباً بسبب تقسيم الدوائر والتوزيع الطائفي للمقاعد، فالمسيحيون والدروز في دائرة الجنوب الثالثة، والشيعة في الشمال، والسنة في البترون والمتن، كلهم تراهم غير متحمسين للمشاركة في الانتخابات، فالمسيحيون في دائرة بيروت الثانية مثلاً، اقترع منهم في انتخابت ٢٠١٨ حوالي ٩ آلاف فقط، من أصل أكثر من ٥٤ الف ناخب مسجلين على لوائح الشطب.
السبب الآخر لعدم المشاركة في الاقتراع، هو وجود قسم لا يهتم أصلاً بالسياسة والمشاركة في الانتخابات، وهـؤلاء هم الغالبية في هذه الفئةً. وهم موجودون في كافة دول العالم، وتصل نسبتهم أحياناً إلى حوالي نصف الناخبين، ولقد عمدت بعض الدول إلى جعل المشاركة في الانتخابات إلزامية، مثل استراليا، والبرازيل، ولوكسمبورغ، وفرضت غرامة على المتخلّفين.وقد أقلعت دول عديدة عن ذلك مثل ولاية جورجيا في أميركا وتركيا وتوقفت بلجيكا منذ عام ٢٠٠٣ عن فرض غرامة على الممتنعين عن المشاركة. وجرّب لبنان في قانون ١٩٥٢هذا الأمر، وجعل الاقتراع إلزامياً للذكور المقيّدين على لوائح الشطب، تحت طائلة فرض غرامة على من يمتنع عن الإدلاء بصوته، لكنه عاد وتراجع عن هذه الخطوة لأسباب عديدة .
٣- فئة العلمانيين: هذه الفئة بغالبيتها من المثقفين و غير المتدينين الذين يطمحون لبناء دولة علمانية حديثة، تتقدم فيها حقوق الإنسان على حقوق الطوائف، وهؤلاء تختلف نسبتهم بين ١٥ الى ٣٥٪ من اجمالي الناخبين، بحسب كل منطقة، فهي مرتفعة في المناطق القريبة من العاصمة بيروت وفي جبل لبنان، في حين تتدنى في الأطراف. وهذه الفئة غالباً تقاطع الانتخابات أو تشارك بشكل ضئيل، نظراً لعدم انتظامها في أحزاب وقوى جامعة مؤثرة، ولقناعة عند غالبيتها بعدم جدوى المشاركة. ورغم أن مرشحي المجتمع المدني في الانتخابات الماضية، حصلوا على حوالي ٦٠ الف صوت تفضيلي، لم يتمكنوا سوى من إيصال نائب واحد إلى البرلمان .
ارتكبت جماعات الثورة والمجتمع المدني هذه المرة نفس الأخطاء الماضية، فهم في ظل غياب التنظيم الحزبي والقيادة الواحدة، وكثرة المرشحين، وتحكّم الأنانية، والغرور وحب الظهور، والهوس بالوصول إلى السلطة لدى معظم الشخصيات التي امتطت ظهر الثورة، توزّعوا على لوائح عديدة، تتنافس فيما بينها على عدد قليل من الأصوات، وبهذا الشكل فهي تكفّلت باسقاط بعضها البعض، مقدّمة بذلك خدمة جليلة للوائح السلطة والأحزاب الكبيرة، التي ستحصد معظم المقاعد.
٤- فئة الإيديولوجيين : هي الفئة الأكبر في المجتمع اللبناني، وتتراوح نسبة هؤلاء بين ٤٠٪ إلى ٦٠٪ حسب المناطق، وهم بغالبيتهم يصوتون وفق انتماءاتهم المذهبية أولاً، أو وفق الأوامر الصادرة إليهم من الزعماء ورؤساء الأحزاب التابعين لها. هذه الفئة هي التي تشارك عادة في الانتخابات، ويتوقف عليها تقرير مصير البلاد. وهي طبعاً معروفة التوجهات مسبقاً، ولذلك فإن الانتخابات القادمة في لبنان، لن تحمل مفاجآت كبيرة، ولا تغيير مهم، باستثناء تبديل بعض الوجوه، التي ستختارها هذه الأحزاب داخل كُتَلِها، أو في القوى الحليفة لها.
بالمحصّلة من ينتظر حصول معجزة في الانتخابات النيابية القادمة، فهو لا يعرف، أو يتجاهل، طبيعة المجتمع اللبناني وتركيبته الإيديولوجية المذهبية، أو ربما يُمنّي النفس أكثر مما يجب، فيقفز فوق الواقع إلى عالم الوهم والخيال والأحلام.
بعد ١٥ أيار ستحتفل كل الأحزاب اللبنانية التقليدية بانتصار الإيديولوجية المذهبية على الوطنية، وستعود إلى انتاج سلطة المحاصصة، تحت شعار التسوية، والحفاظ على السلم الأهلي. أما الثورة الحقيقية ستكون بانتظار جيل جديد، يرمي الحقد والأنانية والطائفية خلفه، وينخرط في أحزاب علمانية جديدة، تجعل حقوق الإنسان والمواطن في رأس أولوياتها وبرامجها، وقد تُحدث حينئذٍ فرقاً، وتُنقذ لبنان من مستنقع التمذهب والتعصب الأعمى، وتُخلصه من براثن إيديولوجيات الطائفية السامة.