يمر اليوم 90 عامًا على تأسيس الشركة الوطنية “مصرللطيران”, والتي تعد أول شركة طيران يتم إنشاؤها في الشرق الأوسط والقارة الافريقية، وسابع شركات الطيران عالميا, وقد تم تأسيسها في السابع من مايو عام 1932، لتطوف منذ هذا التاريخ باسم مصر في سماء العالم وتقف شامخة شموخ الشعب المصري بحضارته الضاربة بعراقتها عبر التاريخ الانساني, وكأن عين “حورس طائر السماء”, الذي أختير رمزا لها يوثق هذا التاريخ العريق للشركة الوطنية وما حققته من طفرات نوعية علي مدار تاريخها منذ أن أنشأها طلعت حرب, فعينه اليمنى هي الشمس والأخرى هي القمر, يجوب الفضاء في قوة وثبات كحال “مصر للطيران”، وهي تطوي في عزة و شموخ صفحات السحاب منذ قرابة قرن من الزمان, لتحتفل اليوم بعيدها التسعون تحت شعار “تاريخ عريق.. ومستقبل مشرق”.
نبذة تاريخية:
بدأت فكرة انشاء الشركة الوطنية تراوض الاقتصادي الكبير طلعت باشا حرب, الذي حمل على عاتقه تحقيق حلم المحاولات الفردية لبعض الشباب المصري في ذلك الوقت بتكوين شركة مصرية للطيران المدني، وامتد هذا الحلم الي كمال علوي, الذي سافر الي باريس عام 1929, ليتعلم فنون الطيران، حيث اشترى طائرة كانت هي الأولى التي يتم تسجيلها في مصر، وحملت حروف التسجيل SU-AAA، وقد أهداها بعد ذلك إلى شركة “مصر للطيران”.
وبعد نجاح وصول محمد صدقي كأول طيار مصري يصل بطائرته “الأميرة فايزة” من برلين إلى القاهرة في 26 يناير 1930، جاءت أول خطوة حقيقة في طريق تأسيس الشركة بعدما أهدى طائرته أيضًا إلى “مصر للطيران”، حيث تعاون الثلاثة العظام كمال علوي ومحمد صدقي وطلعت حرب، لتحقيق الحلم من خلال بنك مصر الذي أسسه طلعت حرب، ليصدرالملك فؤاد الأول المرسوم الملكي في 7 مايو 1932 بإنشاء مصر للطيران، وسميت الشركة باسمين أحدهما باللغة العربية وهو “شركة الخطوط الهوائية المصرية”، والآخر باللغة الإنجليزية وهو ” MisrAirwork “، ونص عقد التأسيس أن يمتلك المصريون 60% على الأقل من هذه الأسهم، وتحدد رأسمال الشركة في البداية 20 ألف جنيه.
ورغم أن البداية كانت بالتدريب والنزهات الجوية في مطار ألماظة بطرازات “دي هافيلاند – دراجون 60″، إلا أنها سرعان ما بدأت بتكوين أول نواة لأسطولها حيث وصلت في 30 يونيو 1933 مطار الماظة أول طائرتين من طراز دي هافيلاند دراجون 84، سعة الواحدة 4 ركاب كنواة للأسطول، وكانت أولى رحلاتها إلى الإسكندرية ومرسى مطروح، وبدأت الشركة فى إعداد جداول تشغيلها حيث سيرت رحلاتها إلى الإسكندرية ومرسي مطروح و أسوان، وفى العام التالي إلى مدينتي اللد وحيفا بفلسطين، وقامت الشركة بتوسيع شبكة خطوطها المحلية والدولية لتشمل بورسعيد والمنيا وأسيوط، ويافا وقبرص وبغداد، لتأتي درة أعمال الشركة في تلك الفترة حين سيرت أول رحلة بين كل من جدة والمدينة المنورة في 1936، وكانت طائرات مصر للطيران أولى الطائرات في العالم التي تهبط في كل من المدينتين .
مع نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939 بدأت الشركة الوطنية مرحلة جديدة من تاريخها، حيث أصبح رأسمالها مصريًّا بالكامل بعد انسحاب “إير وورك” البريطانية الشريك الأجنبي، وحل المصريون محل البريطانيين ليصبح كل شيء فيها مصريًّا، وتحول اسمها إلى الخطوط الجوية المصرية – Misr Airlines في عام 1941، وأثبت المصريون براعتهم وكفاءتهم التي تفوقت علي البريطانيين، حيث بدأت الورش الفنية في تصنيع طائرات صغيرة لتتدرب عليها أطقم المدفعية البريطانية، وتمكنوا أيضًا من تحويل طائرتين من طرازَي أفرو 19 وأنسون الحربيتَين إلى طائرات ركاب مدنية، مما اعتبر معجزة أبهرت الجميع بمن فيهم مالك شركة “إير وورك” نفسه، بخلاف تحويلهم أيضًا طائرات “داكوتا” الحربية إلى طائرات ركاب مدنية بورش الشركة بألماظة، وبعد انتهاء الحرب استمرت الشركة في تطوير أسطولها وبحلول يوليو 1946 أصبح الأسطول الجوي المدني المصري يضم 18 طائرة، ثم كانت الصفقة الأهم وهي شراء 5 طائرات من طراز “فايكنج” التي تتسع لعدد 24 راكبا، حيث كانت إيذانا بالانتقال من عصر الطائرات الصغيرة إلى عصر الطائرات الكبيرة وهو ما طور أيضا من مستوى الخدمة المقدمة للركاب، وبدا لأول مرة ظهور أطقم الضيافة على متن الطائرات. لتأتي ثورة 1952 التي أولت اهتمامها كبيرا بمصر للطيران، حيث أسهمت في رأس المال ليرتفع من 300 ألف جنيه إلى مليون جنيه، وتمثلت أولى ثمار هذه المساهمة في إضافة 5 طائرات فايسكاونت ذات المحركات الأربعة والمقاعد الاثنين والخمسين، كما استقدمت فيه الشركة أول جهاز محاكي لتدريب طياريها عليه لتصبح الأولى والوحيدة في ذلك المجال في هذا الوقت، وصار معهد “مصر للطيران” قبلة المتدربين والدارسين.
كما شهدت حقبة الستينات العديد من ملامح التطوير, بانضمام 3 طائرات من طراز دي هافيلاند “كوميت-4C “، ثم تسيير أطول خطوط الشركة منذ نشأتها وهو خط (القاهرة/ روما/ فرانكفورت/ زيوريخ/ لندن)، وكان أهم هذه الملامح إصدار الرئيس جمال عبدالناصر بوصفه رئيس الجمهورية العربية المتحدة، القرار رقم 83 لعام 1960 بتوحيد شركة “مصر للطيران” ومؤسسة الخطوط الجوية السورية في شركة واحدة، تحت اسم “شركة الطيران العربية المتحدة”، وذلك إثر الوحدة التي قامت بين مصر وسوريا في 1958، وفي عام 1962 أعيد هيكلة الشركة لتصبح الشركة مؤسسة تحت اسم المؤسسة العربية العامة للطيران، وتضم شركات الطيران العربية المتحدة للخطوط الخارجية، و”مصر للطيران للخطوط الداخلية”، والشركة العامة للخدمات وتموين الطائرات، وشركة الكرنك للسياحة، وفي تلك الأثناء تأسست أسواق مصر للطيران الحرة في مطار القاهرة وافتتحت في 1963, و رغم ما خلفته نكسة يونيو 1967 من أزمات على اقتصاديات الشركة، الا أنها استطاعت كعادتها وبسواعد أبنائها وعزيمتهم مواصلة صمودها، حيث أقلع أول خط مباشر من القاهرة إلى لندن في 16 يوليو 1970 كأطول خط آنذاك، وذلك بعد عقد “مصر للطيران” أولى صفقاتها مع شركة “بوينج” العالمية لشراء 4 طائرات من طراز B707-320، لتكون النقلة النوعية الأخري في تاريخ الشركة الوطنية عام 1971، بصدور القرار الجمهوري بإنشاء الهيئة المصرية العامة للطيران المدني، لتنتقل إليها تبعية مؤسسة مصر للطيران، ولتستعيد مرة أخرى اسمها الذي تأسست به “مصر للطيران”، كما تم إنشاء الهيئة العامة للأرصاد الجوية، وهيئة ميناء القاهرة الجوي، والمعهد القومي للتدريب على أعمال الطيران.
في عام 1980 بدأ العصر الذهبي للشركة الوطنية بعد أن أصبح الأب الروحي والتاريخي لمصرللطيران, المهندس محمد فهيم ريان، مفوضًا عامًّا لمصر للطيران، ثم تولى رئاسة مجلس إدارتها في 1981 وحتى عام 2002، شهدت خلالها الشركة عدة طفرات وانجازات ونجاحات، حيث استطاع أن يضع الشركة الوطنية في مصاف كبريات شركات الطيران حول العالم, بعد نجاحه في تطوير الأسطول بشراء 8 طائرات إيرباص (A300-B4) لتغطية أسواق أوروبا والشرق الأوسط، ثم 3 طائرات بعيدة المدى من طراز بوينج 767/200، وتلاها شراء طائرتين من طراز بوينج 767/300، وبعد ذلك شراء 7 طائرات جديدة من طراز إيرباص (A320-200) وقامت الشركة بشراء 5 طائرات جديدة من طراز بوينج 737/500, كما تم شراء 3 طائرات بوينج 777/200 و3 طائرات إيرباص (A340-200) فائقة المدى لتغطية متطلبات سوقي أمريكا الشمالية واليابان، وتلى ذلك شراء 4 طائرات إيرباص (A321-200) لخدمة سوق الطيران العارض الجديد والواعد، وفي اتجاه موازٍ طورت الشركة بنيتها التحتية في مجال التدريب تم تزويد مركز التدريب بمحاكيات طائرات البوينج 707 و737 ومحاكيات إيرباص، إضافة إلى محاكيات تدريب أطقم الضيافة على أعمال خدمة الركاب وإجراءات الطوارئ والإخلاء السريع، كما تم إنشاء مجمع هندسي مجهز فنيا بأحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا الدعم الفني للطائرات وملحقاته من هناجر وورش، ووحدات تعمير وإصلاح واختبار المحركات، وشهدت هذه الفترة إنشاء المجمع الإداري للعاملين بالشركة ومستشفى “مصر للطيران” على أعلى مستوى خدمي.
ورغم المشاكل والأزمات الضخمة التي خلفتها ما سمي بـ”ثورات الربيع العربي” و ثورة 25يناير وما تبعها من أحداث, ألا أن أبناء مصرللطيران كعادتهم عبر تاريخ الشركة ما زالوا يضربون المثل في الوطنية والانتماء لمؤسستهم و وطنهم, بمزيد من الجهد والعمل, كي تبقي مصر للطيران بصمودها و ريادتها رمزا لصمود هذا الوطن, ولأنهم يدركون أيضا أن مؤسستهم الوطنية من أهم ركائز الآمن القومي المصري علي مدي تاريخها رغم ما تحمله أسلافهم في مقابل ذلك, فكم مدت من جسور جوية لعودة المواطنين المصريين من مواطن الصراع و الأزمات في الخارج, وكم كانت وجهة مشرفة أمام ضيوف مصر في مناسبات وطنية عديدة, وكم تأثرت سلبا بسياسات الحكومات المتعاقبة, وأخرها تقسيمها الي عدة شركات في الوقت الذي كانت فيه كبريات شركات الطيران حول العالم تدخل في تكتلات لمواجهة الآزمات الاقتصادية, وكم تحمل هيكلها الاداري من أعباء, فكان يفرض علي الشركة كل عام أن تقبل مئات الوظائف حتي زادت عليها الآعباء نتيجة تلك السياسات وتأثرت مرتبات العاملين بها لدرجة أن دخولهم لا يمكن مقارنتها حتي بشركات الطيران الصغيرة, الآمر الذي بات معه من الصعب اعادة هيكلتها لآن اعادة الهيكلة تتطلب تسريح أكثر من نصف العمالة, ومع كل هذا فلم تشهد الشركة اضرابات واحتجاجات وصلت الي حد تعطيل العمل مثل ما حدث في شركات ومؤسسات كثيرة.
ومع نهاية عام 2019 وبداية عام 2020 اجتاحت العالم “جائحة كورونا” هذه الأزمة العالمية التي أثرت على معظم المجالات والصناعات وكان النصيب الأكبر في التأثير من نصيب صناعة الطيران المدني والسياحة على مستوى العالم؛ والذي يعد أكبر تحدٍّ واجهته صناعة النقل الجوي في تاريخها، حيث توقفت حركة الطيران وتم إغلاق الكثير من المطارات والمجالات الجوية في معظم دول العالم للحد من انتشار المرض؛ الأمر الذي أدي إلى تأثر صناعة الطيران بشكل كبير وإعلان عدد من شركات الطيران إفلاسها، وافقد الشركة الوطنية إيرادات كبيرة وكبدها خسائر ضخمة, الأمر الذي استشعرت معه القيادة السياسية الخطر علي الشركة الوطنية، فأصدر الرئيس عبدالفتاح السيسي، توجيهاته للحكومة بدعم الشركة الوطنية حتي تمر من كبوتها وتكون قادرة علي الوفاء بالتزاماتها، وكان لهذا الدعم مردوده الإيجابي في قدرة الشركة علي الصمود أمام تلكم التحديات، ومع كل هذا استهلت الشركة الوطنية “مصر للطيران” بداية عام 2022, بإنجاز جديد من خلال تشغيل أول رحلة بخدمات ومنتجات “صديقة للبيئة” في إطار المسؤولية المجتمعية للشركة من القاهرة إلى باريس؛ لتكون الرحلة الأولى من نوعها لشركة طيران في القارة الأفريقية، كما أعلنت الشركة عن تدشين مركز إقليمي لصيانة الطائرات بمطار أكرا بغانا، وتشغيل خطوط جديدة في إطار توسعة شبكة خطوطها الجوية؛ مثل خط “كينشاسا” بالكونغو في مارس، و”دبلن” بأيرلندا، والانتهاء من إجراءات تشغيل خط “دكا” بنجلاديش، وغيرها من الخطوط الجديدة، وكذلك استئناف خط مومباي بالهند… الخ، في إطار خطة لاستئناف تشغيل الخطوط التي توقفت بسبب جائحة كورونا، فضلًا عن الاستمرار في خطة تحديث الأسطول حيث يشهد نهاية عام 2022 و2023 البدء في استلام أولي طائرات الإيرباص A321NEO وعددهم ٧ طائرات وطائرتين من طراز البوينج B787-9Dreamliner المتعاقد عليهم.
كل عام و شركتنا الوطنية رائدة فتية قوية و صامدة بسواعد وكفاءة طياريها ومهندسيها والعاملين بها، وحفظ الله لمصرنا الحبيبة أمنها و امانها ووحدة شعبها.