لا توجد حتى الآن، على حد علمى، دراسة علمية اهتمت بالبحث فى العلاقة المتبادلة بين تغيرات منظومة القيم والعقائد وبين تطورات النظام السياسى سواء على المستوى الوطنى أو على المستوى العربى العام. وبنفس المعنى يمكننا أن نفترض أنه لا توجد دراسة علمية، حتى الآن، تبحث فى تأثير التطورات التى تحدث فى النظام السياسى للدولة على منظومة القيم والعقائد والأفكار السائدة والحاكمة لأداء النظام. لكن من متابعتنا لهذه العلاقة المعقدة والمتشابكة، يمكننا القول إنها علاقة تفاعل وتأثير كبيرة. فالتحولات والتطورات التى تحدث فى بيئة النظم السياسية من ناحية كونها نظماً ديمقراطية أم تسلطية، رأسمالية أم اشتراكية، إسلامة أم علمانية تفصل بين الدين والسياسة، والتحولات التى تحدث فى أولوية القضايا المركزية التى تشغل النظام السياسى وتحدد أنماط علاقاته وتفاعلاته مع النظم السياسية الأخرى على المستوى العربى أو على المستوى الإقليمى أو على المستوى الدولى، تؤثر بقوة على منظومة القيم والعقائد والأفكار السائدة فى الدولة التى يقودها هذا النظام. لذلك فإن اهتمامنا بمنظومة القيم السائدة فى دولنا العربية، خاصة من منظور تأثيرها على الهوية الوطنية والهوية القومية للدول العربية لا يمكن أن ينفصل، بأى حال من الأحوال، عن طبيعة النظم السياسية العربية وتطوراتها وأنماط تفاعلاتها مع الدول والمجتمعات الأخرى. ويمكننا هنا أن نتحدث عما يمكن اعتباره «دراسة حالة» وأقصد به الجدل والتفاعل الحادث الآن فى دولة الكويت الشقيقة حول ما أخذ يُعرف بـ «وثيقة القيم» التى أثارت، ومازالت تثير، جدلاً مجتمعياً واسعاً فى الكويت امتد إلى الجوار الخليجى- العربى بشكل يحمل قدراً لا بأس به من الإثارة خصوصاً أن هذه الوثيقة التى تضمنت 12 بنداً إضافة إلى بند آخر «حركى» أو «تنظيمى»، ترتبط ارتباطاً مباشراً وأساسياً بالانتخابات البرلمانية التى ستجرى بعد غدٍ الخميس (29/9/2022) ، حيث جرى توزيع هذه «الوثيقة» بكثافة على مرشحى مجلس الأمة للتوقيع عليها والالتزام بالدفاع عن بنودها فى حالة الفوز فى الانتخابات. ما فجرته هذه «الوثيقة» من صراع وجدل فى الأفكار والآراء يكشف مستوى الانقسام فى المجتمع الكويتى حول القيم التى تضمنتها تلك الوثيقة. فالواضح أن «التيار الإسلامى» فى الكويت هو الذى أعد هذه الوثيقة، وأنه يخوض بها أحد معاركه ال.1000تى يريد أن يحولها إلى مكاسب داخل البرلمان الكويتى مستفيداً من وجود رأى عام شعبى كويتى رافض أو متحفظ على التحولات الانفتاحية، التى أخذت تتزايد فى دول خليجية مجاورة. فالقيم، أو بالأحرى، الأفكار التى تتضمنها الوثيقة لا تزيد على كونها «أفكاراً دينية محافظة» منها مثلاً النص على رفض المسابح والنوادى المختلطة فى الفنادق وغيرها، والدعوة إلى تفعيل «اللباس المحتشم» فى الجامعات، وتأييد المشاريع والقوانين الإسلامية والقيمية التى يقدمها النواب فى مجلس الأمة، والعمل على «وقف الابتذال الأخلاقى) بما يخدش الحياء على الواقع وفى مواقع التواصل، وغيرها».الواضح أن الوثيقة تقتصر على ما له علاقة بالأخلاق الدينية، لذلك جرى وصفها من جانب التيارات الأخرى المناوئة الليبرالية والنخبوية خاصة بأنها «وثيقة الصحوة» الإسلامية، والبعض تطرف فى نقدها وسماها «وثيقة قندهار». ردود الفعل الرافضة للوثيقة جاءت من منحى الصراع السياسى الكويتى الداخلى لسببين أولهما أن الوثيقة جاءت ضمن المعركة الانتخابية التى يخوضها الإسلاميون على مقاعد مجلس الأمة الكويتى، وثانيهما أن الوثيقة تعبر عن تيار سياسى بعينه ، وأن هذا التيار لم يكتف بالدعوة إلى تطبيق وتعهد شفهى للمرشحين الانتخابيين بمضمون الوثيقة بل تعداه إلى حرص من أعدوا الوثيقة على ممارسة دور الرقيب على المرشحين والفائزين منهم ممن وقع الوثيقة على وجه الخصوص عبر فتح «خط ساخن» بينهم وبين النائب الموقع على الوثيقة، وإبلاغه أول بأول بما سموه «المخالفات الشرعية والأخلاقية». مسار تلك التفاعلات يكشف أن من أعدوا الوثيقة ويعملون على تفعيلها يطرحون التوقيع عليها والالتزام بمضمونها كشرط لدعم المرشحين للانتخابات، الأمر الذى حفز أحد المرشحين الطامحين للفوز بعضوية مجلس الأمة إلى المبالغة فى إظهار دعمه للوثيقة والتزامه بها عبر كتابته على حسابه على «تويتر» قائلاً: «محاربة منا لدعوات التغريب الممنهجة، والمحاولات المتعمدة لطمس ثقافتنا وهويتنا الإسلامية المحافظة، وإيماناً منا بأن هويتنا الإسلامية هى مصدر عزتنا وكرامتنا أعلن تبنى ما جاء فى وثيقة القيم». الزج بالوثيقة باعتبارها ذات علاقة بـ «هوية الأمة» المعرضة للغزو الثقافى الغربى، يعتبر مزايدة على الاتجاهات الرافضة لتلك الوثيقة التى تركزت فقط على الضوابط الأخلاقية والدينية، وخلت، فى ذات الوقت من أى مطالب لدعم ديمقراطية العملية السياسية ومحاربة الفساد، ورفض الدعوات التطبيعية مع كيان الاحتلال الإسرائيلى، الأمر الذى أعطى ثقلاً أخلاقياً للرافضين لها باعتبارها «مجرد خطاب انتخابى للاستهلاك المحلى مغلف بواجهة دينية، وموجه إلى جمهور معين لاستقطاب الشارع السياسى الذى يستظل بالحركات الإسلامية». لذلك هناك من ينظر إلى «الوثيقة» باعتبارها شكلاً من أوجه التعبير عن الإفلاس السياسى الذى يواجه تلك الحركات، بعد تراجع الدعم السياسى والتمويل الذى كانت تنعم به كنتيجة لمجمل التحولات التى تحدث فى دول عربية خليجية مجاورة أخذت تتبنى أفكاراً انفتاحية ومتحررة مثل هذه التعليقات تكشف لنا بوضوح أننا، كعرب، نعيش بالفعل أزمة انقسام حول هويتنا بين تيارات سياسية وثقافية متعددة بين ما هو ليبرالى رأسمالى وما هو قومى، وما هو اشتراكى وما هو إسلامى، وأن هذا الانقسام السياسى يمتد إلى انقسام حول منظومة القيم العليا لدى كل تيار، فكيف لنا أن نتحدث عن هوية وطنية جامعة، أو هوية قومية جامعة؟ السؤال مهم ومحورى، لكنه يفتح أيضاً المجال للبحث فى دراسة تأثير التطورات السياسية والثقافية التى تحدث فى الدول العربية وانعكاساتها على منظومة القيم. فما يحدث فى بعض دول الخليج العربية المجاورة امتد إلى الكويت ليس فقط من منظور التأثير فى الأفكار والمواقف والرؤى السياسية بل وأيضاً من المنظور القيمى والدليل على ذلك هو «وثيقة القيم» الكويتية والصراع المتفجر حولها .