كان أمرا لافتا تلك الغضبة التى شاركت فيها أطراف عراقية سرعان ما تلقفتها مواقف داعمة عربية من العديد من دولنا العربية فى مواجهة ما يمكن تسميته «مماحكات إيرانية» عبرت عن نفسها فى احتجاجات حكومية بمشاركة واسعة من الإعلام الإيرانى المحافظ والإصلاحى معاً اعتراضاً على استخدام مسئولين عراقيين، على رأسهم رئيس الحكومة محمد شياع السودانى مسمى «الخليج العربى» إبان افتتاح بطولة «كأس الخليج» لكرة القدم (خليجى 25) التى تستضيفها مدينة البصرة فى السادس من يناير الحالى. ذروة الاعتراض الرسمى الإيرانى جاءت من جانب وزير الخارجية الإيرانى حسين أمير عبداللهيان، الذى استدعى السفير العراقى فى طهران لإبلاغه احتجاجاً رسمياً على تسمية العراق للخليج «الخليج العربى» وليس بـ«الخليج الفارسى». الموقف الإيرانى لم يمر مرور الكرام على الإعلام العراقى أو النخب الثقافية التى ردت بما هو أقوى فى تأكيد جدية مسمى الخليج بـ «الخليج العربى» وليس «الخليج الفارسى». معركة الخلاف بين العرب وإيران حول اسم «الخليج» طويلة وممتدة إلى جانب الكثير من القضايا الخلافية بل وربما الصراعية فى بعض الأحيان ، لكن هذا لم يمنع من مواصلة علاقات التعاون بين إيران والعرب فى مجالات كثيرة، لكن ما يعنينا فى مشكلة الخلاف التى تفجرت مجدداً حول اسم الخليج هو تفجر الغضب الشعبى دفاعاً عن العروبة فى ظروف عربية شديدة القسوة اعتقد معها كثيرون، أن «العروبة قد ماتت» أمام هذا التداعى الحادث فى أوضاع العرب وأحوالهم سياسياً واقتصادياً وأمنياً، ما جعل هؤلاء يعتقدون أن «العروبة» لم يعد لها مكان فى أولويات العرب أمام أزماتهم الخاصة والعامة التى شغلتهم عن مواصلة الارتباط بعروبتهم. هبة الدفاع عن «عروبة» الخليج ، تكشف عن معان عميقة مازالت مترسخة فى الوجدان العربى تشدهم نحو التمسك بهذه العروبة، لكن هنا بالتحديد يجدر التساؤل عن: أى عروبة يريد العرب؟ هل العروبة هى مجرد شعار نرفعه حسب المناسبات؟ أم هى مجرد ارتباط معنوى عاطفى يجعل العرب يشعرون بـ «الأخوة المشتركة فى أوقات الأزمات»؟ أم هى مشروع للنهضة والتقدم؟ هذا هو السؤال الجوهرى فى قضيتنا التى تشغلنا والتى تجعلنا على يقين بأنه ليس من العقل أو الحكمة أن نروج لأكذوبة أن مشاكلنا الطاغية علينا، والتى وصلت إلى درجة «ندرة لقمة العيش» فى بعض الدول العربية، وإلى خطر ضياع الأوطان كما هو حال دول عربية أخرى، يجب أن تصرفنا عن عروبتنا، فالعكس هو الصحيح فانصرافنا عن عروبتنا هو الذى أوصلنا إلى ما وصلنا إليه من ضعف وهوان ومخاطر تهدد الحاضر والمستقبل معاً، ونؤكد أيضاً أن هذا هو أوان إحياء الدعوة العروبية ولكن على أسس جديدة، تجعل العروبة أكثر ديمقراطية وأكثر حداثة وأكثر احتراماً لحقوق الإنسان وحرياته خاصة حقه فى المواطنة المتساوية العادلة، وأكثر تعبيراً عن الشعب وطموحاته، أى العروبة الجديدة الحضارية. فنحن كأمة عربية نواجه أحد خيارين: إما الانفراط النهائى والتشرذم والتبعثر فى كيانات صغيرة عرقية ودينية وطائفية مذهبية لا يختفى معها الوطن العربى باتساعه الشاسع بل تختفى أيضاً الدول الوطنية العربية، على نحو ما تتحدث أوراق وخرائط مشروعات غربية – إسرائيلية تروج لدعوة إعادة تقسيم ما سبق تقسيمه من أرض العرب تحت مسمى «سايكس- بيكو جديدة» استكمالاً لما دمرته خرائط «سايكس – بيكو الأولى» عام 1916 على أيدى البريطانيين والفرنسيين، ليتأسس «الشرق الأوسط الكبير»، وإما نفض هذا الغبار اللعين بكل روائحه الكريهة، واستعادة زمام المبادرة، والبدء من جديد لإحياء مشروع النهضة الحضارية العربية، والتصدى لكل نوازع الهوان والتفكك والانهيار . القرار سيبقى مرهوناً بإرادة الشعب العربى فى كل أقطاره، وهى إرادة سبق أن اختبرت فى عشرات المرات فى سنوات وتجارب حالكة السواد، لكنها كانت دائماً عند حسن الظن بها، وكانت قادرة على صنع المستحيل. وعندما تتوافر هذه الإرادة الشعبية الجسورة المؤمنة بوحدة الأمة، وبحتمية إحياء مشروع عربى للنهضة والتقدم، فحتماً ستجد الحكومات العربية نفسها مدفوعة للانخراط فى مسار المشروع العربى، وعندها تتكامل الإرادات إرادة الشعوب وإرادة الحكومات نحو الخيار العروبى الوحدوى. وإذا كنا قد تحدثنا فى مقالات سابقة فى هذا المكان عن مواصفات ذلك المشروع العربى وخرائط تصالحاته المتعددة، فإن السؤال الصعب يبقى يفرض نفسه ، وهو كيف لنا أن نحقق هذا الطموح، وأن نؤسس هذا المشروع النهضوى الحضارى الوحدوى؟ حتماً ستبقى الإجابة عن هذا السؤال مثار اجتهادات واجبة من كل مهتم بالمستقبل العربى ، فى ظل ما يعتقده كثيرون بأن الطريق إلى المشروع العربى ليس إلا السير فى نفق ليست له نهاية مادام أن نظم الحكم العربية تعتقد أن مصالحها ليست مع هذا المشروع فى ظل ما هو مروج من أخطاء حول أن المشروع العربى سوف يستهدف بقاء هذه النظم وأنه يتهدد وجودها، وهذا خطأ هائل، وإذا كانت هناك من مهام يمكن أن تقودنا إلى الطريق الصحيح لتأسيس المشروع العربى فى ظروفنا الشديدة التعقيد فسوف تكون أولى المهمات هى ترسيخ ثقة نظم الحكم العربية فى المشروع بتأكيد أنه لا يتحتم، لإقامة المشروع، إلغاء وجود الدولة العربية وإسقاط نظم الحكم وإقامة الدولة الواحدة. تجربة الاتحاد الأوروبى تضعنا جميعاً على طريق الثقة فالاتحاد الأوروبى الحالى مر بالعديد من التجارب فى درجة ونوع التكامل والاندماج الأوروبى ومازالت الدول الأوروبية قائمة ومازال الاتحاد الأوروبى يتطور ويحقق نجاحات . المهمة الثانية هى تركيز الاهتمام والأولوية بقضية تخليق الوعى العروبى الوحدوى، وتخليق تيار عروبى مؤمن بالوحدة. فالمعركة من أجل المشروع العربى هى «معركة وعى» بالعروبة ومشروعها النهضوى بالدرجة الأولى. تبقى المهمة الثالثة وهى تفعيل مؤسسات العربى منها والشعبى وتطويرها خاصة البرلمانية والعمالية والمهنية منها كاتحادات العمال والمحامين والصحفيين والأطباء والصيادلة وغيرها وكذلك الاتحادات الطلابية والشبابية والنسائية وربط كل هذه الاتحادات والمؤسسات والروابط بالمشروع العربى وأهدافه الوحدوية، عندها سوف تتخلق إرادة الوحدة ويجد المشروع العربى طريقه إلى النجاح.