قبل الكتابة عن رحلتي الصحافية لمحافظة ( السويس ) مع زملائي الصحفيين برعاية أخي وصديقي وزميلي الكاتب الصحفي النبيل الأستاذ. على القماش.. لابد لي من توضيح مكانة المدينة الباسلة في قلبي.
ما يميز “السويس” عن غيرها من مدننا الرائعة.. هو موقعها الفريد.. فهي مدخل مهم جدا إلى: إفريقيا ودول جنوب غرب وشرق آسيا، إضافة إلى إنها تمتاز بجمال الطبيعة، إذ يحتضنها جبل عتاقة من الغرب، وخليج السويس وفنار أبو الدرج من الجنوب، وقناة السويس من الشرق، والحدائق وجنيفة والبحيرات من الشمال.. فضلا عن جوها المعتدل والرائع على مدار العام.
يرجع غرامي بالمدينة الباسلة إلى أيام شرف خدمتي بقواتنا المسلحة، أعلى خط بارليف بشاطئ قناة السويس، ونفق الشهيد أحمد حمدي.. ذكرياتي في هذه المنطقة والمناطق المحيطة بها، لا يمكن أن تنسي.. وكيف تنسي وقد خدمنا في ذات الأماكن التي سالت في سبيل تحريرها دماءً أبطالنا العِظام.
أذكر في هذه الفترة التي شهدت عنفوان وحماس الشباب العاشق لتراب وطنه.. والمتلهف للتضحية من أجله بدمه وروحه.. أنني كنت – مع بعض رفاق السلاح – نزور مدينة السويس ونمشي في شوارعها ونأكل من أكلاتها الشعبية ( فول وفلافل وكشري ) من المحلات المتواضعة.. ثم نجلس على مقاهيها الجميلة الممتلئة بأهلنا الكرام.. سواء أكانوا من السكان الأصليين.. أو ضيوفها.. أو من المحافظات المجاورة، والذين قطنوها بعد تعميرها إثر انتصارنا العظيم في حرب أكتوبر المجيدة في 1973.
وسط هذا الجو الرائع.. كنت أتعمد أن أتقرب – على مقاهي السويس – من أي شخص له علاقة بتاريخ المقاومة الشعبية ضد العدو الصهيوني.. هؤلاء الذين سطروا بطولاتهم الفدائية الخالدة بحروف من نور.. إنهم العظماء – كما وصفهم أحد الزملاء الصحفيين في مؤلف رائع كنت قد قرأته لكني نسيت عنوانه – “إن مهنتهم هي الحياة لا السلاح.. وفى لحظة الخطر.. يتحولوا إلى مقاتلين وفدائيين من طراز لا يتكرر”.. فهم – بإيجاز – قطعة من قلب مصر.. ومن صلب جيناتها العبقرية.. ومن مدينة السويس على الخط الأمامي للمقاومة الباسلة.. يكدحون ويمرحون.. يعانون ويفرحون.. لكنهم لا يتخلفون أبدا عن دفع ضرائب الدم.. تراهم يتركون بيوت السكينة إلى لهيب النيران عندما يتطلب الأمر.. تصهرهم المحن.. وتخلقهم خلقاً جديداً.. ويصنعون البطولات المذهلة.. وكأنها ثقافة أصيلة في دمائهم عن الحياة اليومية.
أتذكر في تلك الفترة أنني كلما غادرت قريتي الحبيبة “منية محلة دمنة” قاصدًا موقف السويس في قلب محافظتي الغالية “الدقهلية – مركز المنصورة” لأسأل عن العربات المتجهة إلى السويس.. كنت أسمع السائقين ينادونني: يا دفعة: مسافر بلد الغريب إن شاء الله تعالي….؟!
وبالسؤال والبحث عن اسم أو حكاية “الغريب”.. علمت أنه كان شخصية شهيرة في السويس.. جاهد جنبا إلى جنب مع “السوايسة” العدوان السافر الذي شنه القرامطة (فرقة إسماعيلية أقامت دولة إثر ثورة اجتماعية وسياسية ضد الدولة العباسية، وانشقت من باقي الشيعة الإسماعيلية بعد رفضهم إمامة عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية) على المدينة الباسلة.. وكانت قائدًا وشهيدًا فاطميًا.. وصاحب كرامات، حكايات وروايات شعبية أثبتت أنه من حاملا للكرامات التي لا تظهر إلا على أولياء الله الصالحين وخاصته.
وقد رويت عنه إحدى الروايات التي ربطته بالمناضل البطل الشيخ حافظ سلامة (بطل وقائد المقاومة الشعبية في مدينة السويس، وأحد رموز العمل الخيري، وباعث الروح المعنوية، وأحد رموز مصر على مر العصور، وذكر المؤرخ العسكري جمال حماد الشيخ حافظ سلامة في كتابه “العمليات الحربية على الجبهة المصرية”، في حديثه عن معركة السويس وما قام به قائد المقاومة الشعبية من بطولات وتضحيات عظيمة وخالدة تسطر بأحرف من نور ضد العدو الصهيوني)، وقد وافته المنية مؤخرا، عن عمر ناهز 95 عاما بمستشفى الدمرداش بالقاهرة.
ومن باب العلم بالشئ.. فان السوايسة – حتى الجيل الجديد – لا يعرفون إلا القليل من هذه التفاصيل التى توارثوها جيلًا بعد جيل.. غير أن تفاصيل التفاصيل لا يعرفها إلا المهتمين بتاريخ وحضارة هذا المكان العريق.. وخصوصا المقربون من مجموعة الفدائيين “أعضاء منظمة سيناء العربية”.. هؤلاء الأبطال الذين قادوا المعارك وقت الحرب.. وحينما تجلس مع فدائى ستحصل – بالتأكيد – على معلومات قيمة من حكايات فدائيينا العظام.
المهم.. بعد استمتاعي بالجلوس على المقاهي، وسماع قصص وحكايات أبطال السويس.. أعود مرة أخرى إلى وحدتي العسكرية.. أتذكر حينها أنني دائم الوقوف على خط بارليف والتأمل فيه.. أتمعن ضخامته وفكرة إنشائه وأنا أتابع مرور السفن التجارية والحربية الأجنبية المارة من القناة.. ثم أتذكر تضحية أجدادنا الذين استشهدوا أثناء حفرها نتيجة حرمانهم من أبسط حقوقهم في: المأكل، المشرب، العلاج، والراحة، و…. إضافة إلى المعاملة السيئة التي كانوا يعاملون بها على يد المحتل اللعين ليشقوا أشهر الممرات المائية الاصطناعية بالعالم.
أتذكر أيضا أن حوالي مليون مواطن مصري قاموا بحفر هذه القناة طوال 10 سنوات.. استشهد منهم 120 ألف ضحية بحوادث مختلفة.. جميعهم كانوا ضحايا لحفر قناة بطول 193 كيلومترا.. وبعرض أقله 280 وأكبره 345 مترا.. وعمقه 22 مترا.. ليمدوا في جسد الأرض أهم شريان ملاحي في العالم عام 1874، مع ملاحظة أن خبراء الآثار أفادوا أن قناة السويس حُفرت فترة حكم سنوسرت الثالث – أحد ملوك الأسرة الثانية عشر – ثم أهملت بحسب ما أكده موقع “العربية. نت”، ثم تم إعادة افتتاحها وردمها كثيرون من بعده عبر القرون، كان آخرها في عهد الخليفة هارون الرشيد، ومن بعده ردموها أيضا على بساطتها وحجمها الصغير وبدائيتها.
وقبل أن أخلد للنوم داخل “مبيتي” ووسط رفاقي الأبطال في “سريتي” أعلى الساتر الترابي (خط بارليف) والمطلة على قناة السويس.. يدور في ذهني القرار التاريخي الذي أعلنه الزعيم – خالد الذكر – جمال عبد الناصر لتأميم هذه القناة.. والذي أعقبه العدوان الثلاثي: (فرنسا وانجلترا وإسرائيل) الغاشم على مصر.. لحظتها سألت نفسي: ترى ما الذي كان سيحدث لقناة السويس إن لم يتخذ “ناصر” هذا القرار التاريخي.. الإجابة على هذا السؤال بحاجة إلى وطنيين مُخلصين لتوضيح وكشف الحقائق أمام القارئ بنوع من الشفافية والحيادية بعيدا عن التعصب السياسي الأعمي.
وسط هذا الزخم الفكري.. أجد نفسي من أشد المهتمين بتاريخ السويس وأبطالها.. وما كان يؤرقني حقا.. هو أنه طوال عشرات السنين.. كان يختزل إعلامنا حديثه عن السويس في يوم ” 24 أكتوبر” فقط.. هذا اليوم التاريخي الذي تصدى فيه أبطالها للجيش الإسرائيلي.. وصنعوا ملحمة “سوايسية” عظيمة.. وهذا توجه محمود حقًا.. لكن من غير المنصف أنه لم يكن مسموحًا لهؤلاء الأبطال من فدائيى المدينة الباسلة أن يظهروا في وسائل الإعلام إلا أثناء احتفالات نصر أكتوبر.. وبشكل محدد.. لا يتحدث عنهم ولا عن بطولاتهم إلا القليل.
فعلى سبيل المثال لا الحصر.. ظل الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك طوال فترة حكمه يروج إلى أنه الوحيد صاحب انتصار أكتوبر.. بينما هو كان قائدًا للضربة الجوية الأولى التي تكونت من خمسة آلاف طيار وليس مبارك فقط، وهذا ما كان يؤكده لي شخصيا البطل الراحل لواء طيار ا.ح محمد زكي عكاشة رحمه الله وغفر ولكل شهداءنا الأبرار قبل 10 أعوام تقريبا، وقد كتبت عن ذلك كثيرا.
في هذا السياق نعود لما يقوله دائما المؤرخون: «أن لكل معركة أبطالها».. لكن التاريخ عودنا فى بعض أحداثه.. أنه في وقت الحرب يكون.. هناك أبطالا يضحون بدمائهم فى سبيل رفعة الوطن. لكن – مع الأسف الشديد – غيرهم.. هم الذين يستفيدون من تلك التضحيات.. وتوزع عليهم غنائم المعركة.. وفى معارك كثيرة.. تم أغلق أبواب التاريخ على من ضحوا بدمائهم فى سبيل رفعة أوطانهم.. بينما أظهر من لم يشتركوا فى المعركة باعتبارهم “أبطال”:….!!
نعود مرة أخري لموضوعنا الأساسي.. وهو رحلة الصحفيين إلى السويس.. حيث بدأت زيارتنا بـ “متحف السويس القومي”.. إذ يعتبر هذا المبني تحفة معمارية مهمة.. تحتضن آثار وتراث جزء وفترة نادرة من تاريخ مصر، حيث يحكي تاريخ قناة السويس قديما وحديثا، والتي ترجع فكرة تشييدها إلى الدولة المصرية القديمة منذ أكثر من 4 آلاف عام تقريبًا، يوجد بالمتحف آخر محمل لكسوة الكعبة الذي أرسلته مصر إلى مكة المكرمة باسم الملك أحمد فؤاد الثاني، كما يوجد به قاعات تحكي تفاصيل دقيقة ومهمة جدا عن الملاحة قديما عبر العصور، وأيضا عدد لا بأس به من القاعات رائعة الجمال للآثار: اليونانية والإسلامية.
كما يعتبر المتحف منارة ثقافية.. بل ومعلم سياحي يسلط الضوء على قناة السويس التي تربط ما بين البحرين الأحمر والمتوسط، وقد نشأت فكرة متحف السويس القومي بعد انهيار المتحف القديم أثناء حرب 1967م – حيث نقلت جميع القطع الآثرية التي كانت معروضة به إلى مخازن المتحف المصري بالتحرير، ويعرض المتحف تراث المدينة وآثارها وتاريخها بدايــة من عصر ما قبل التاريخ – كما أشرنا – وحتى العصر الحديث.
تم افتتح المتحف في عام 2012م، ويتكون من طابقين يفصل بينهما قاعة عرض مكشوفة يعرض بها طرز مختلفة من الأعمدة، فهو يلقي الضوء على تاريخ حفر قناة السويس والقنوات المائية ودورها في الملاحة البحرية مثل قناة نكاو التي كانت تربط النيل بالبحر الأحمر، كما يبرز علاقات مصر التجارية وحرفتي التعدين وبناء السفن وأهمية مدينة السويس فيما يتعلق برحلات الحج للأراضي المقدسة، حسب ما جاء بموقع وزارة السياحة والآثار، بالإضافة إلى ذلك تم تخصيص قاعة لتوثيق كفاح أبناء مدينة السويس ضد الاحتلال البريطاني، وكذا خلال معركة أكتوبر1973م، بالإضافة إلى قاعة التحنيط وهي من أهم قاعات المتحف حيث أنها تحاكي المقبرة من الداخل ويحتوي على تصوير كامل لعملية التحنيط.
ومن أبرز معروضات المتحف تمثال الملك سنوسرت الثالث الذي يرجع إلى عصر الدولة الوسطى (الأسرة الثانية عشر) فهو من القطع الرئيسية المعروضة بالمتحف، كما يضم المتحف لوحة الملك الفارسي دارا الأول التي تعد واحدة من أربع لوحات تذكارية تأسيسية أمر بإقامتها إحتفالًا بشق قناة تربط النيل بالبحر الأحمر في أربعة مواقع مختلفة بالتوازي على ضفة القناة.
كما يضم المتحف أيضًا مكتبة وقسم للأنشطة التعليمية، أما عن حديقة المتحف فيوجد بها نموذج (تم بناؤه حديثًا) لإحدى سفن أسطول الملكة حتشبسوت (الأسرة 18، الدولة الحديثة) التي كانت ترسلها للتبادل التجاري مع الدول الأخرى.
وتأتي زيارتنا الثانية لمنطقة آثار جنيفة.. وهي من المناطق الأثرية الهامة حيث أن قناة سيزوستريس الفرعونية (الأسرة 12) وقد كانت تخرج من البحيرات الصغرى إلى جنيفه، ويلاحظ بالمنطقة كثير من تكاسير الفخار، ومعظمها يرجع إلى العصر البطلمي والروماني، كما وجد بها بعض الآثار المعمارية والأفران التي كانت تستخدم لصهر المعادن وصناعة الزجاج.
بعد ذلك زرنا سلسلة جبال عتاقة.. وهي سلسلة جبال ممتدة بطول البحر الأحمر ويبلغ أقصى ارتفاع لقمته 870م، وهي كتلة انكسارية حادة عليها آثار التعرية، والجبل محدب هلالي الشكل ينتهي عند الحافة الشمالية الحادة، وكان يستخرج من هذا الجبل خام النحاس في العصر الفرعوني، وكذلك بعض المعادن والأحجار، أما جبل الجلالة الجنوبي فيبدو ملتحمًا بجبال البحر الأحمر في منطقة “أم التقاصيب” ولها ارتفاعات عالية تصل إلى 1000م أعلاها 1250م، ويحصر الجبل وادي عربه.
ثم زرنا الجزيرة الخضراء.. والتي تقع في منتصف خليج السويس، وهي عبارة عن نتوء من الشعب المرجانية كان ينتشر بشكل كبير مما يهدد السفن، وهي تتحكم في المدخل الجنوبي لقناة السويس مما دفع العلماء لوضع كمية من الأسمنت فوقها حتى لا يضر السفن العابرة للقناة، وتحولت إلى جزيرة في مدخل القناة الجنوبي.
أما زيارتنا لعيون موسى.. فكانت – بحق – مكافأة روحانية أكثر من رائعة.. وتنسب هذه العيون إلى نبي الله موسى – على نبينا الحبيب المصطفي وعليه وعلى كل أنبياء الله السلام – وتقع على بعد 30 كم من نفق الشهيد أحمد حمدي إلى الشرق في سيناء، وهي مجموعة من الينابيع الطبيعية، مختلفة السعة طمس عدد كبير منها، وهي مياه ارتوازية عذبة إلى جانب مجموعة من النخيل.
وجاءت رحلتنا للمدينة الباسلة بزيارة قصر محمد علي باشا.. والذي شيده هذا الوالي محمد ليكون مقراً له أثناء إعداد الجيش المصري إعدادا يليق بعظمة وقوة مصر، يوجد بداخله قاعة أسفل قبة هذا القصر.. وفيها كان يجتمع محمد علي وأبنائه: طوسون وإبراهيم لإدارة الحروب حتى 1818م.. ويتكون القصر من طابقين، تعلو الجزء الشرقي منه قبة خشبية غاية في الجمال والرقي.
بعد عودتنا من زيارة “قصر محمد على” انتقلنا بالباص السياحي إلى سوق الأنصاري لتجارة الأسماك.. والذي يقع في المدينة.. ويضم أنواعا مختلفة من الأسماك، والتي تتميز – حقيقة – بجودتها العالية، وتفاوت الأسعار بما يتناسب مع كافة الأذواق والإمكانيات، حيث شهد السوق وقت تواجدنا فيه إقبالا متزايدا من الزبائن لشراء احتياجاتهم من الأسماك.
أنواع كثيرة وطازجة من الأسماك أمام البائعين.. والتى كان أبزرها: جمبرى أزاز سويسى كبير.. وجمبرى أزاز جامبو.. وسمك خنزيرة بلاط كبيرة.. وسمك لوت قناة.. وسمك سهلية.. وسمك حارت.. وسمك دراك.. وسمك كليمارى وشخرم قناة.. وسمك قاروص قناة.. وسمك دينيس قناة وسوبيا.. وسمك جحا.. وسمك بلاميطة وغيرها من الأسماك مثل: سمك الهامور والتى يصل ثمن الحجم الكبير منها إلى حوالى 2000 جنيها.. وكذلك أسماك الناجل.. وكذلك سمكة الوحش والتى يصل وزنها حوالى 20 كيلو جراما وهى أسماك طازجة وتمتاز باحتوائها على العديد من العناصر الغذائية الهامة للجسم.
وقبل توجهنا إلى القاهرة.. قمنا برحلة ممتعة في مياه قناة السويس بلنش بحري مملوك لأحد النوادي المطلة على البحر الأحمر.. واختتمنا الرحلة بتناولنا وجبة سمك (أرز وسلاطة وطحينة) لذيذة.