تم يوم الأحد ٤ مايو ٢٠٢٤ م. في مصر الإعلان عن إنشاء (موسسة تكوين الفكر العربي- فرع مصر) التي أعلن مؤسسوها عن هدف إنشائها بأنها: (تؤسس جسوراً من التواصل بين الثقافة والفكر الديني، للوصول إلى صيغة جديدة في النظر، وتعمل على تطوير خطاب التسامح وفتح آفاق الحوار، وتعزيز قيم الحوار البنّاء، ودعم الفكر المستنير، وإرساء قيم العقل والاستنارة والإصلاح والحوار، وقبول الآخر، والإيمان بمبادئ السلام العالمي بين المجتمعات والثقافات والأديان). وتضم هذه المؤسسة عددا من الشخصيات الفكرية المعاصرة من أبرزهم: إبراهيم عيسى، الدكتور يوسف زيدان، الدكتورة ألفة يوسف، الدكتور فراس السواح، الدكتورة نايلة أبي نادر، الدكتور إسلام بحيري وغيرهم.
لكن الرافضين لإنشاء هذه المؤسسة والمتخوفين من مجرد وجودها أعلنوا عن هدف آخر لها، أو ادعوا أنها تهدف إلى (الدعوة الصريحة إلى الإلحاد والتشكيك في دين الإسلام والسنة والشريعة والعقيدة، والطعن في ثوابتها.) ومن ثم وجه كثير من هؤلاء الرافضين الدعوة إلى تحذير المواطنين منها، حرصا على أنفسهم في الحال وعلى أبنائهم في المآل. وقد بلغ الرفض لهذه المؤسسة لدى تيار كبير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي أن دشنوا (هاشتاج) وسموه (#إغلاق_مركز_تكوين) وقد لاقى تفاعلا كبيرا من مستخدمي الفيسبوك وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي. والعجيب أن أصحاب مؤسسة تكوين سعداء جدا بهذه الحملة التهويلية عليهم؛ من حيث أن في ذلك إثبات أثر مجرد وجودهم على الناس.
ولم يقف الأمر في هذا السياق عند مجرد الرفض القولي أو الفكري، بل تعداه إلى استعداء القضاء المصري على هذه المؤسسة، فقد تقدم أحد المحامين ببلاغ عاجل للنائب العام ضد مجلس أمناء مركز تكوين الفكر العربي، وهم كل من: الإعلامي إبراهيم عيسى، وإسلام البحيري، ويوسف زيدان، وقال المحامي في بلاغه (إن المبلغ ضدهم قد عكفوا بصفة دورية ومسلسلة ومعروضة على العامة على استغلال تدويناتهم المكتوبة عبر حساباتهم الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعي، أو من خلال الندوات العامة أو البرامج التلفزيونية، على بث أفكارهم المتطرفة تحت ستار الدين؛ بالتشكيك في ثوابت الدين الإسلامي والسنة النبوية المطهرة؛ بزعم تجديد الخطاب الديني والتنوير وتعمدهم إعطاء المعلومات المغلوطة للجماهير، والتشكيك في الثوابت وعلم الحديث دون امتلاكهم أي سند صحيح؛ قاصدين من ذلك إثارة الفتنة بين أطياف المجتمع المصري وزعزعة عقيدته الدينية الوسطية للنيل منه). لكن هل سيتم إيقاف أو منع مؤسسة تكوين (مصر) استجابة لهشتاج رواد مواقع التواصل الاجتماعي، أو هل سيحكم القضاء المصري بذلك ؟! لننتظر ما ستسفر عنه الأيام القادمة، وإلى أن يحدث ذلك ستظل هذه المؤسسة في ممارسة عملها، ولن يعيقها عنه رفض رافض أو شكوى شاك.
ويمكننا القول إن هذا الإنزعاج أو (التهويل) لدى قطاع كبير من عوام المسلمين أو حتى لدى كثير من أتباع تيار الإسلاميين والأزهريين من إنشاء مؤسسة تكوين مصر، قد يكون مبناه الحرص على التدين والخوف على الدين بدعوى أن هذه المؤسسة ستعمل ضد الدين وتسعى إلى تقويض ثوابته. والحق أن هذه الدعوى تحتاج إلى مراجعة وتريث وفصل بين الدين من ناحية والفكر الديني من ناحية. فليس كل نقد أو حتى نقض لفكر ديني – قديم أو حديث أو معاصر- يعد نقدا أو نقضا للدين وثوابته. ورغم ذلك قد نلتمس العذر لهؤلاء المنزعجين المهولين لخوفهم على دينهم وتخوفهم ممن يمس تدينهم. فقط يجب عليهم أن يعرفوا الفرق بين الدين والفكر الديني، ولو عرفوه وعرفوا أن هذه المؤسسة وغيرها تقوم بنقد ونقض فكر ديني معين؛ لاستراحوا وخففوا من هذا التهويل في مثل هكذا مواقف. وكما يقال (صاحب المعدة القوية لا يخشى أي نوع من أنواع الطعام) وبالتالي فصاحب العقيدة الراسخة والتدين السليم، لا يخشى أي نوع من الفكر الديني. ولا يخشى على ضياع الدين أصلا، فالدين باق لا يؤثر فيه فكر مفكر ولا طعن طاعن.
ويبقى الدور المهم في الرد بالفكر العقلي المعتدل على فكر أصحاب مؤسسة تكوين، هذا الدور يقع على عاتق المفكرين الإسلاميين المعاصرين المعتدلين. وهؤلاء يقولون: أهلا بفكر أصحاب مؤسسة تكوين وغيرها، أيا كان هذا الفكر، فنحن له بالمرصاد، وقادرون على الرد عليه (فكر بفكر، وعقل بعقل، ودليل بدليل) دون (تهوين أو تخوين أو ادعاء). فضلا عن دور المؤسسات العلمية الفكرية وخاصة (المؤسسات الأزهرية والمراكز البحثية) التي تولي العقل وأدلته أهمية كبرى في هذا العصر للرد على أي فكر يستحق النقد أو النقض.
وأخيرا أقول لهؤلاء المهولين المنزعجين من إنشاء مؤسسة تكوين مصر : لا تنزعجوا أبدا من طرحهم الفكري المخالف، ولا من خوض غمار أسئلتهم الشائكة؛ لأن الفكر لا يقابل إلا بالفكر. بل إن المفكر المعتدل الصحيح هو الذي يسعى إلى مؤسسة تكوين لا للدخول فيها، بل للحوار والنقاش مع أصحابها، في نقاش فكري جاد حول ما يريدون من قضايا وأطروحات، وبدون أي مانع في الحوار والنقاش. فليس في تراثنا الديني ولا في حضارتنا الإسلامية ولا في ديننا بالطبع ما نخشى الحديث فيه ولا الحوار حوله. أما دعوى هدم الثوابت الدينية -قرآن وسنة- والعمل ضد الدين، وزعزعة الدعائم، وتقويض الرموز. فهذه لا يدعيها المفكر الصحيح، إنما يقاوم فكرا بفكر ودليل بدليل. وهذا ما يضع أصحاب مؤسسة تكوين مصر وغيرهم في حجمهم الطبيعي دون تهويل أو تهوين.