في رحلة أكثر من رائعة قام بها عدد كبير من السادة الزملاء الصحفيين من أمام مبني نقابتنا العريقة ( الصحفيين ) منذ أيام قليلة مضت إلى المدينة الأجمل والأروع ” رشيد”، استقبلنا الخبير الأثري محمود الفخراني – مدير عام منطقة آثار رشيد – على مشارف المدينة، وظل – مشكورا – بصحبتنا يوما كاملا حتى زرنا جميع المناطق الأثرية التي تزخر بها رشيد. جدير بالذكر انني خلال تلك الرحلة التاريخية الجميلة، استحضرت من الذاكرة مفترة رائعة من طفولتي البريئة، وذلك حينما درست مع أقراني في المرحلة الابتدائية فترة احتلال الفرنسيين لمصر، وزواج السيدة ” زبيدة ” بنت محمد الميزوني ” من الجنرال الفرنسي ” مينو “، حيث كانت ” زبيدة ” تقيم في مدينة رشيد بمنزل والدها – أكبر الأعيان إلى القاهرة. كانت ” زبيدة ” – رغم أن التاريخ لا يذكر تفاصيل حياتها كثيرا من حيث تاريخ الميلاد، وظروف التربية، واكتفاء الكاتب الكبير علي الجارم بتخليدها أدبياً في رواية ” غادة رشيد “، لكنها دخلت التاريخ من باب أنها إحدى أبرز رموز التمدن المصري بشكل غريب نظراً للزمن التي عاشت فيه. بعيدا عن قصة ” زبيدة” ، تحتفل رشيد كمدينة تابعة للبحيرة بالعيد القومى للمحافظة في 19 سبتمبر من كل عام، والذى يوافق ذكرى انتصار أهالى رشيد الأحرار على حملة فريزر الإنجليزية عام 1807، وتعتبر رشيد من أشهر المدن المصرية القديمة على الإطلاق لما تمثله المدينة من أهمية تاريخية وتراثية كبيرة وتبلغ مساحتها 2.5 كيلو متر وتقع على رأس أحد فرعى نهر النيل واسماها الأوروبيون روزيتا أى الوردة الصغيرة أو الجميلة. كما تشتهر بالآثار الإسلامية والمنازل والقلاع الأثرية التى يعود تاريخها إلى العصر العثمانى، بالإضافة إلى المساجد والأضرحة التاريخية مثل المسجد المحلى والعباسى ومسجد زغلول وكذلك قلعة قايتباى الذى عثر داخلها على حجر رشيد الذى بسببه تم فك رموز اللغة الهيروغليفية. وتعتبر رشيد، دُرة خضراء على ضفاف البحيرة، بلدة تلتف حولها غابات النخيل من كل اتجاه، وعلى جيد هذه الحسناء تتوزع أشجار الفاكهة من المانجو والجوافة كسوار جميل على صدرها، بلد مضيافة لكل خلق الله وعابري السبيل على مر الأزمان، أسواقها عامرة طول العام، يشكل أهلها فسيفساء بشرى جميل بين الشرق والغرب (أجانب وعرب مسلمين ومسيحيين ويهود) كل ذلك انصهر فى بوتقة واحدة هي الهوية المصرية، بلد تشعرك بالأمان والطمأنينة. تحتوي رشيد على ٢٢منزلاً أثريًا و١١مسجدًا وزاوية وطاحونة وحمام وقلعة، فضلاً عن بوابة “أبو الريش” والقلعة ومجموعة من الطوابى التي يعود تاريخها لأسرة محمد علي باشا، حبا الله رشيد بالموقع المتفرد، فهي شبه جزيرة تقع بين النيل والبحر، أما بحيرة إدكو فقد زارها كل الحكام، وعلى ضفافها أُبرمت الكثير من المعاهدات والاتفاقيات التجارية، أهلها صابرون يسعون من أجل “لقمة العيش” قد يندفعون خارجها، لكن رغم مرور الأيام والغربة تجد فى قلوبهم الحنين الدائم لرشيد. ورشيد، مدينة دُفن فيها الصحابي الجليل عبدالله بن الصامت، ومقامه معروف ومقام بها حتى الآن، كما كانت محطة كبرى للفتح الإسلامى؛ ولهذا استوطنها العديد من القبائل العربية. تصدت هذه المدينة الباسلة للغزاة ولم تستسلم فى أثناء الحملة الإنجليزية ١٨٠٧م، بل كانت سببًا فى هيمنة محمد على باشا على القاهرة و الإسكندرية وإحكام السيطرة لتصبح ولايات خاصة به حتى يستطيع الانفصال عن الدولة العثمانية، وكانت عنق الزجاجة أمام أي محتل دخيل يسعى للتوغل داخل البلاد المصرية، فلكى يحتل أى مدينة مصرية فلابد من العبور من رشيد عبر النيل. وكانت رشيد منذ القدم ولادة للعديد من الأعلام التى افتخرت بهم بين أبناء مصر، ومنهم على بك السلانكلى حاكم رشيد ومحافظها فترة الحملة الانجليزية، كما أنها بلد نقيب الأشراف الشيخ حسن كريت الذى أمر محمد على باشا جنوده بعد الحملة الإنجليزية ١٨٠٧ أن يعسكروا خارج المدينة وألا يدخلوا المدينة إلا بإذن من الشيخ حسن كريت. ومن أعلام رشيد، الشاعر على الجارم مؤلف”غادة رشيد، ونفسية المرادية، وقتيلة القباقيب”، وقد كان على الجارم (شريف النسب) حيث كان أهالى رشيد يذهبون لجده فى بيته استصراخًا من مظالم حاكم المدينة عثمان خجا، كان والده عبد المحسن الجارم قاضى دمنهور. لقاء أسطورى بين النيل والبحر على أرض مدينة المليون نخلة «رشيد».. تحت هذا العنوان نشرت “الأهرام” عن رشيد إنها هى أصغر المدن المصرية التى تم ترشيحها دون غيرها لتكون ضمن التراث الإنسانى العالمى ليتم إدراجها على القائمة التمهيدية لليونسكو، صاحبة أشهر حجر فى التاريخ وأشهر أهم موقع قرب « برزخ » لقاء النهر مع البحر، والذى وصف الحق معجزته فى قوله تعالى «مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان». «رشيد» تلك المدينة الصغيرة القابضة على نيلنا العظيم، والتى حملت فى سنواتها الأولى اسم « بوليتين » ولُقبت فى العصر القبطى «رخيت» واسمها اللاتينى (روزيتا) أى الوردة الصغيرة الجميلة، وذكرها ابن حوقل بأنها مدينة على النيل قريبة من البحر المالح من فوهة تعرف بـ« الاشتوم » وهى المدخل من البحر، وبها أسواق وحمامات ونخل كثير، وذكرت فى « نزهة المشتاق» بأنها مدينة متحضرة لها مزارع وحنطة وشعير، وبها نخيل كثير، وضروب السمك من البحر المالح والسمك النيلى. «رشيد» التى قال عنها السيسى إنها ستكون منبراً لجذب أنظار العالم، عقب إعلانه فى شهر يوليو 2017 عن مشروع قومى ينقل المدينة إلى خريطة السياحة العالمية، لما تتميز به من موقع جغرافى وآثار تاريخية، وتستكمل بإنشاء بنية تحتية إذ تم تخصيص مساحات كبيرة من الأراضى المملوكة للدولة من أجل إقامة مجتمع عمرانى جديد يحمل اسم «مدينة رشيد الجديدة». إليها ذهبنا لتقف عند نقطة اللقاء الأسطورى المقدس بين مياه النيل الحكيم وأمواج المتوسط الهادرة، لنكون شاهد عيان على بدايات عهد جديد فريد يجعل من تلك البقعة الصغيرة النادرة على أرض مصر موقعاً استراتيجياً سياحياً من الدرجة الأولي. طوال الطريق إلى مدينة «المليون نخلة» هكذا تٌلقب لما تحويه أراضيها من نخيل خصب نادر، كان كفيلاً بأن يجعلنى أستعيد بعضا من تاريخها منذ خروجها للحياة مبكراً خلال العصر الفرعوني، وصنع موقعها الفريد الذى جعلها تتصدر حدود مصر الشمالية، لتحمل وحدها لواء الدفاع عن أرض مصر أمام كل الغزاة، وعظم شأنها بوقوعها عند (البرزخ) الذى يحول دون اختلاط مياه النهر العذبة ومياه البحر المالحة، فى واحد من أسرار الكون، ووصف الشاعر على الجارم نخيلها بالقول: « والنخيل النخيل أرخت شعورًا.. مرسلات ومدت الظل مداً. كالعذارى يدنو بها الشوق قرباً». إذن هى المدينة الأثرية الباسلة التى كان موقعها صانع قدرها كما يقول أهلها، فقد سبقت الحملة الإنجليزية، حملة أخرى فرنسية اجتاحت المدينة عام (1798) واستمرت فى مصر حتى عام (1801) وكانت لوجود الفرنسيين فى رشيد قصص وحكايات تركت آثارها حتى اليوم، وكان أهمها أن اكتشف ضابط فرنسى فى (19 يوليو 1799) حجرًا من البازلت الأسود بطول متر وعرض (73) سم، ويعود تاريخه إلى عام (196) قبل الميلاد مسجلاً عليه محضر تنصيب الملك بطليموس الخامس والاعتراف به ملكاً لمصر. بعض الدراسات على امتداد فترات زمنية متباعدة، وآخرها دراسة الدكتور عكاشة الدالى، والذي حصل من خلالها علي درجة الدكتوراه، أثبتت أن علماء المسلمين العرب بذلوا جهودًا مضنية – وإن لم تنجح نجاحا كبيرًا – للتعرف على القيمة الصوتية والمعانى لبعض المفرادات المصرية القديمة. وأثبت في دراسته أن علماء العرب في القرون الوسطي هم من فكوا طلاسم ورموز الحضارة المصرية القديمة، قبل العالم الفرنسي جان فرانسوا شامبليون الذي ينسب إليه فك رموز الكتابة الهيروغليفية بألف سنة على الأقل، ومنهم العالم الفذ ابن وحشية النبطي – عالم مسلم وشاعر من بغداد – اشتهر بعمله في مجال النحو العربي، وكشف “الدالي” عن أسماء علماء من مصر وغيرها من البلدان العربية مثل “أيوب ابن مسلمة” و”الصوفي ذو النون المصري” و”جابر بن حيان” و”أبو بكر بن وحشية” و”ابو القاسم العراقي”، موضحا أن جميعهم ساعدوا في فك طلاسم الخطوط المصرية قبل وصول الحملة الفرنسية الى ارض مصر بألف سنة علي الأقل، وأصبح من المستطاع فهم وقراءة الهيروغليفية، ذلك الحجر التاريخى الذى استولى عليه البريطانيون من القوات الفرنسية، ووضعوه فى المتحف البريطاني، حيث مازال موجودًا فيه حتى الآن ومازالت مصر تطالب بعودته إلى أرض الوطن. وما أن وطأت أقدامنا أرض المدينة ( الأهرام ) التى يتم تطويرها لتصبح أحد أهم المشروعات القومية والسياحية فى مصر، حتى استقبلنا المهندس مصطفى إسماعيل المسئول التنفيذى لمشروع التطوير، ليرافقنا طوال رحلتنا التى طالت جميع المشاريع التى أصبحت ملامحها واضحة لترتسم على كل ارجاء المدينة الباسلة، بدأ المهندس مصطفى حديثه بالقول: – تحمل المدينة مكانة خاصة لدى الجميع ولا سيما أن أرضها تضم العديد من الآثار الإسلامية والبيوت الأثرية وغيرها مما دفع المسئولين على المستوى القومى عامة وعلى مستوى القيادات السياسية بالبحيرة إلى تطوير مدينة السحر والجمال، حيث بدأ العمل بهذا المشروع منذ عام 2008 وحتى عام 2011 بتخصيص 412 مليون جنيه، إلا أن المشروع توقف عن استكمال أعمال التطوير نظرا لقيام الثورة عام 2011 وعدم توافر اعتمادات مالية لاستكمال المشروع، إلى أن وجه السيسى بالقرار التاريخى بمؤتمر الشباب الرابع المنعقد بالإسكندرية والبدء فى تطوير مدينة رشيد الأثرية على أن ينتهى العمل فيها بحد أقصى ثلاث سنوات، وصدر قرار السيد رئيس الجمهورية رقم (117) لسنة 2019 بإنشاء مدينة رشيد الجديدة على مساحة 3185 فدانا تقريبا. حيث تم توقيع بروتوكول تعاون بين المحافظة وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، على غرار ما حدث فى مدينتى المنصورة والعلمين. هذا بالتزامن مع استخلاص المعادن الاقتصادية من الرمال السوداء بشاطئ البحر برشيد بطول 9 كيلومترات والمشروع عبارة عن استخلاص عدد من المعادن الاقتصادية التى تدخل فى أكثر من 40 صناعة. إنه ميناء الصيد الجديد بمدينة رشيد، سفن عملاقة ترسو على ضفاف النيل العظيم، وأياد ماهرة رشيدية خالصة تعمل بكل دقة وتفان فى نحت تلك السفن التى من المقرر لها أن تخوض مياه المتوسط على مسافات وأعماق بعيدة، قطع حديثنا صوت اللواء هشام آمنة محافظ البحيرة الذى هاتفنا فى وقت مناسب ليطمئن على سير جولتنا. والذى تحدث عن مشروع ميناء الصيد بقوله: هذا المشروع مقام على مساحة ٤٨ ألف م٢ بطول ٨٥٠ م، ويضم: ١٢ مبنًى لخدمات الصيانة والهندسة والتخزين والإدارة، وسوقًا للجملة والتجزئة، ومحطتين لرفع الصرف الصحى ومياه الأمطار، ورصيف تراكى يستوعب 60 مركبًا/ ساعة، ورصيف صيانة يستوعب 5 مراكب، بالإضافة إلى ورشة صيانة تستوعب مركبين، ويستكمل آمنة: – إنه الميناء الأول بمصر لخدمة الصيادين ويعد لبنة من جهود المحافظة فى تطوير مدينة رشيد التى تتميز بموقع استراتيجى مهم، حيث التقاء النيل بالبحر المتوسط عند منطقة البوغاز ، كما أن من شأنه تنشيط عملية الصيد التى تعد الحرفة الأساسية لمعظم سكان رشيد، ونظراً لما تواجهه حرفة الصيد من مشكلات ومعوقات، فإن الميناء حال الانتهاء من إنشائه سوف يساهم فى حلها، بالإضافة إلى فتح آفاق جديدة للعمل وخلق أسواق منظمة لبيع الأسماك تختفى فيها كل آثار الاحتكار على المستوى المحلى وولوج الأسواق العالمية لتصديرها. ولم يكن ممكناً أن نغادر أرض مدينة المليون نخلة، دون أن نتعبد فى محراب نيلنا العظيم وبحرنا المتوسط الأسطوري، ذهبنا إلى تلك المعجزة الربانية، حيث اللقاء العظيم لنرى كيف تنتهى رحلة النيل العظيم، مشوار طويل قطعه الحكيم منذ لحظة ميلاده التى انطلقت من عند شلالات إثيوبيا الهادرة المحملة بمياه بحيرة تانا ليلتقى بالبحر. مشهد اللقاء العظيم لا يمكن أن يفارقك أو أن تودعه دون أن تجد نفسك تقرأ سورة الرحمن « مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ . بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ». ألقينا السلام على مدينة رشيد الجديدة وودعنا الكورنيش والمناطق السكنية والبوغاز الذى تجرى عمليات تكريكه بميزانية وصلت إلى 30 مليون جنيه، غادرناها ولدينا يقين بأن تلك الزيارة عندما تتكرر بعد عدة اشهر قليلة ستكون الأماكن اختلفت وربما تبدلت، فمشروع مدينة رشيد يخطو بخطوات غير مسبوقة على حد وصف محافظ البحيرة.