في مطلع ديسمبر (كانون اﻷوّل ) الماضي، اختطفت ثﻼث عشرة راهبة من ديرهنّ في بلدة معلوﻻ، ويومها تحرّك اﻹعﻼم بأغلبه بما يكفي ليجعل من قضيّتهنّ مادّة إعﻼميّة تثير المزيد من التّحريض، وتشعل المزيد من وقود الحرب اﻹعﻼميّة المشتعلة بين موالين ومعارضين. وما لبث اﻹعﻼم أن نسي الموضوع حتّى استفاق ثانية بعد إطﻼق سراح الرّاهبات ليخرج علينا بتحليﻼت وانتقادات ﻻ حدّ لها بما يخص تصريحات الرّاهبات. تماماً كما حصل يوم تحوّلت معلوﻻ إلى بلدة موبوءة بأؤلئك اﻵتين من العصور الجاهليّة ليعلّمونا الفرق بين المؤمن والكافر ويزرعوا الوحشيّة والتّخلّف في أوطاننا وليس فقط في معلوﻻ. وقتئذٍ شكّل الخبر مادّة دسمة لﻺعﻼم، ثمّ تحوّل إلى مجرّد خبر ثمّ أُهمل الموضوع. وهذا ليس غريباً أو جديداً على غالبيّة الوسائل اﻹعﻼميّة المصونة بكلّ فئاتها، سواء أكانت المرئية أم المقروءة أم المسموعة. فلم يعد للحضارة اﻹنسانيّة أيّ اعتبار أو أيّة قيمة حتّى تبادر السّلطة اﻹعﻼميّة إلى التّضامن فيما بينها كي تحوّلها إلى “قضيّة!” وأمّا اليوم فالخبر الّذي يشكّل مادّة دسمة لﻺعﻼم ليس إطﻼق سراح الرّاهبات وإنّما تصريحاتهنّ الّتي أنست اﻹعﻼم كلّ اﻷسى المحيط بنا وكلّ المخاطر المتربّصة بنا والّتي يمكن أن تستمرّ وتصبح أخطر، وشغل نفسه بتصريح راهبات أُطلق سراحهنّ نتيجة مفاوضات. ما يعني أنّه لوﻻ المفاوضات لما أُطلق سراحهنّ. وﻻ يهمّ من هي الجهات المتفاوضة، كما ﻻ يهمّ أي شكل اتّخذت هذه المفاوضات، ولصالح من. ففي الحروب وخاصّة اﻷهليّة، المتفاوضون متّفقون دائماً وإن اختلفوا علناً، وأمّا المتنازعون الحقيقيّون فهم من تجذبهم المشاحنات وتستهويهم الزّعامات والزّحف خلفها، ويجرّهم الشّارع إلى اﻻقتتال فيما بينهم ﻷسباب هم أنفسهم ﻻ يعرفونها. ما الضّير في ما قالته الرّاهبات، وما هي نوعيّة الكﻼم الّتي كان من المفروض أن يتفوّهن بها؟ ومن نصّبنا قضاة عليهنّ بل جﻼدين، حتّى نشرئبّ وننتقد أسلوبهنّ وتصريحاتهنّ؟ وإلى أين ستؤدّي كلّ هذه التّحليﻼت إلّا إلى زرع الشّكّ في نفوس النّاس وإلى تشتت عقولهم واﻹساءة إلى الرّاهبات؟ إن كان الموضوع خوفاً على المسيحيّة، فلو نزع المسيحيّون في العالم كلّه صلبانهم فلن تتأثّر المسيحيّة ﻷنّها ليست صلباناً معلّقة على الرّقاب بل محمولة على اﻷكتاف وفي القلوب. وإن كان الموضوع دفاعاً عن المسيحيّة فهي ليست بحاجة لمثل هذا الدفاع. وأمّا إن كنّا بصدد المزايدة بإيماننا على إيمان الرّاهبات، فأرني أعمالك حتّى أرى إيمانك. هل كان المطلوب أن تخرج علينا الرّاهبات بتصريحات تحريضيّة ودعوة لحمل السّﻼح والقتل على الهويّة؟ أم أنّهنّ خرجن علينا بروح المسيح وفكر المسيح؟ لعلّنا نسينا كيف غفر سيّدنا لصالبيه وهو على الصّليب، ولم يغفر وحسب وإنّما التمس لهم عذراً وهو أنّهم ﻻ يعرفون ماذا يفعلون. ولعلّنا تناسينا كلّ ما أوصانا به يسوع المسيح… كفى استهتاراً براهبات دير ما رتقﻼ، ولنشكر الرّبّ أنّهنّ عدنَ إلينا سالمات، فغيرهم خرج منذ زمن طويل ولم يعد ولن يعود… كفى ثرثرات وانتقادات ونظريّات من هنا وهناك لمجرّد ملء صفحات إخباريّة وحقن النّاس بالمزيد من الحقد والكراهيّة. الرّاهبات بخير، هذا ما يهمّنا والمجد لله كلّ حين ﻷنّه استجاب لصلواتنا وهو الوحيد العالم والقادر على حلّ اﻷمور بمشيئته وليس بمشيئتنا وتحويلها لما هو خير لنا. وإن كان أحدهم يرى أنّ الراهبات الجليﻼت أخطأن أو أنّ كﻼمهنّ لم يعجبه، فهناك مسؤول عنهنّ وهو فقط من يحقّ له محاسبتهنّ. كثر هم من يحملون الصّليب حول أعناقهم، وقليلون من يحملونه على أكتافهم وفي قلوبهم، ونشكر الله على راهبات جليﻼت خرجن من المحنة ثابتات بإيمانهنّ، عامﻼت بما أوصاهنّ سيّدهنّ. فلنتعلّم منهنّ كيف نثبت في المحن والتّجارب، ولنقتدِ بهنّ كما اقتدينَ بالمسيح.