ذلك الصّوت الصّامت، الحاضر في إشراقة الصّباح والسّاهد في غفوة اللّيل، والكامن في أسارير الوجود. ذلك الكيان الّذي يتلقّف قسوتنا ولا يقسو، يحتمل جهالة طفوليّتنا ولا يشتكي، يعاين مرارة اختلافاتنا وجهامة عقولنا وغلاظة قلوبنا ولا يتردّد في احتضاننا.
وجه أمّي، وجه وطني… فالأمّ وطن يحتضن كيان الإنسان بكلّه، يمنحه من ذاته فينمو ويكبر وقد يتغرّب الإنسان عنه ثمّ يعود ثمّ يرحل وينسى. الأمّ وطن قويّ بذاته، بضعفه العاطفيّ الّذي لا يتوانى عن العطاء اللّامتناهي، والّذي يتغذّى من رحمة قلبه ويتقوّى بنظرات التّحنان على فلذات أكباده. إنّها الرّسالة الملائكيّة الّتي تنطوي فيها آمال القصائد الجميلة، ومواعيد الأحلام وترانيم الصّفاء عند ساعة النّوم الهنيء. إنّها المرأة المثقلة بالصّبر والمعدّة لجهاد عظيم لا تدرك قدسيّته إلّا من حملت في قلبها ما شابه حبّ الله للعالم. ذاك الحبّ الّذي ينهمر بقوّة وبوفرة ولا يشحّ، ويتوزّع على الكلّ ولا يحابي الوجوه.
وجه أمّي، وجه وطني… والوطن أمّ نحمل في داخلنا كلّ ذرّة من كيانه وتنطبع فينا ملائكيّته الّتي ترافقنا أينما حللنا، ومهما تبدّلت الأيّام وتقلّبت الأحداث ومهما خانت قوانا الصّعاب. وأينما حطّ ترحالنا نخطّ حضارته، وننشدها على مسامع الكون حتّى يتحوّل الوطن شخصاً يتنقّل في هذا العالم. إنّه رفعة العطاء في مجّانيّته، وسموّ الحبّ في بذل ذاته. إنّه نسيمات الرّجاء عندما يفتر فينا الأمل، ورهبة الجمال عندما تباغتنا دمامة السّنين، وعظمة الخيال عندما يصفعنا الواقع.
وطني يحملني منذ النّفس الأوّل، يسكب في شراييني ماءه العذب النّضير. من قمحه يقتات جسدي وفي كنفه تتغذّى روحي. سماؤه غطائي وشمسه سراج دربي مهما تعسّر السّبيل. أفترش ترابه فأحنّ إلى الحضن الأوّل وأرتحل في أحلامي البسيطة أبحث عنه في طيور نيسان العائدة والهاربة من قرّ الشّتاء، لتلقى وطني عشّاً هنيئاً ترقد فيه بسلام. وطني سنابل قمح لا يرهقها الشّموخ ولا تثقلها حبّات عدّها الباري لإشباع أفواه جائعة. وطني ملامح امرأة وجدت لتكون أمّاً وأمّة تجمع في ظلّ جناحيها إخوة يتلاقون عند ضفاف الأنهار، يلعبون ويفرحون، ويتنازعون ويحزنون. وعند هتاف الغروب يعودون إلى أحضانها متحابّين، مبتسمين، متناسين أيّ نزاع حتّى لا يتنسّموا إلّا رائحة الوطن كي يحيوا.
الأمّ ملاك ينشده الله للخليقة حتّى يتذكّر أبداً أنّ السّلام لا يزهو إلّا بالبذل والعطاء، وأنّ الحبّ لا ينمو إلّا إذا منح بوفرة ومجّانيّة، وأنّ الامّحاء سرّ العظمة وسرّ الحبّ الّذي لا يفنى. والوطن أمّ، زرعه الله في جنّة مشرقة، على أطرافها أنهار تفيض الدّموع لننهل منها بهاء الرّوح ونقائها، وفي وسطها أغصان عدّة، متفرّعة ومتفرّقة لكنّها ملتحمة بجذع واحد، حتّى نتجرّع أبداً معنى الكرامة بالوحدة والتآخي.