الحرّيّة، قيمة شغلت الفكر الإنساني وما زالت تشغله خاصّة في مجتمعاتنا الّتي تفتقد إلى الحرّيّة على الصّعيد الفكري والديّني والاجتماعي والسّياسي… ويسعى الإنسان جاهداً طيلة حياته لتحقيق هذا الهدف وبشتّى الوسائل، وقد يضحّي بنفسه من أجل أن ينال هذا الحقّ المقدّس. ولكن، في مرحلة ما يعتقد أنّه نال حرّيّته إلّا أنّه ما يلبث أن يكتشف أنّ قيوداً كثيرة ما زالت تكبّله وتعيق بلوغه هذا الهدف. للحرّيّة مفاهيم عدّة، وكلّ يعبّر عن مفهومه بحسب إطاره التّربويّ والاجتماعيّ والمحيطيّ والسّلوكيّ، وكلّ يشرح الحرّيّة بحسب رغبته بنيلها أو بمعنى أصحّ بحسب القيود الّتي تأسره. والحرّيّة مفهوم غزير المعاني وواسع الدّلالة، ويتشعّب ليرتبط بعدّة حقوق إنسانيّة تعتبر جزءاً لا يتجزّأ من كرامة الإنسان وبالتّالي ممارسته لحرّيّته، كحرّيّة المعتقد وحرّيّة الرأي والتّعبير وحرّيّة ممارسة العمل السّياسيّ… إلّا أنّه يبقى عسيراً على الإنسان بلوغ الحرّيّة الكاملة رغم السّعي والاجتهاد، وذلك لأنّ ثمّة عوامل عدّة تعترض سبيله، وغالباً ما تكبّله الحرّيّة عينها لأنّه إمّا لم يحسن استخدامها، وإمّا لأنّه سعى إلى حرّيّة غير تلك الّتي تمنح الإنسان كمال إنسانيّته. – المفهوم العام للحرّيّة: الحرّيّة كما يصفها ” ديكارت”، هي القدرة على فعل الشّيء أو الامتناع عن فعله، فالعامل الأساس والأوّل للحرّيّة هو الإرادة الواعية والمدركة لاتّخاذ قرار الفعل أو الامتناع عنه. ويلتقي ” ديكارت” مع “روسو”، إذ إنّ الأخير يعتبر أنّ الحرّيّة لا تعتمد على أن يفعل الفرد ما يريد بإرادته الخاصّة، بقدر ما تعتمد على ألّا يخضع لإرادة شخص آخر، وهي تعتمد أكثر على عدم خضوع الآخرين لإرادتي الخاصّة. وبالتّالي فعدم الخضوع يحتاج إلى إرادة صلبة وخبرة حياتيّة أسهمت في صقل هذه الإرادة ومنحت الشّخصيّة الإنسانيّة اتّزاناً عقلياً وعاطفيّاً فتأبى الخضوع. كذلك يشير الفيلسوف البريطاني ” جون لوك” إلى أنّ الحرّيّة هي قدرة المرء على فعل أو الإمساك عن فعل أي نشاط خاص”، وقد طوّر لوك مفهوم السّلوك الاجتماعي للحرّيّة جاعلاً الإنسان هو القضيّة وهو الموضوع للعلاقة الوطيدة بين فهم الإنسان لقوانين الطّبيعة ذات القواعد العامّة لتنظيم السّلوك الغريزي لذات الإنسان مؤكداً على أنّ الحريّة تعني: ” وجوب أن يحترم كلّ شخص حياة وممتلكات الآخرين”. ولئن شكّلت الإرادة العامل الأساس لبلوغ الحرّيّة فهذا يقتضي تدريب هذه الإرادة وترويضها على كيفيّة معرفة اتّخاذ القرار الصّائب. فالإنسان يخضع لضعفه البشريّ ولمحدوديّته كما لرغباته، وبالتّالي فقدرته على اتّخاذ القرار الصائب تبقى مرهونة بعدّة حيثيّات، كما أنّها تبقى خاضعة للوعي والضّمير الإنساني. كذلك الإنسان كائن محكوم بقوانين عدّة شارك في صياغتها مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، وتأتي هذه القوانين لتشكّل رادعاً يقولب حياته، فمن جهة يمتلك حرّيّة خاصّة ومن جهة أخرى يمارس حرّيّته بدون أن يتسبب بأذيّة نفسه أو أذيّة الآخرين. إنّ القوانين الاجتماعيّة تتمركز حول ما هو مسموح وما هو ممنوع، والالتزام بها يتطلّب منهاجاً تربويّاً يدرّب النّفس الإنسانيّة على العمل بها والتّقيّد بها، وبالتّالي وجب تنشئة الإنسان منذ الصّغر على احترام القوانين والالتزام بها حتّى يحيا بأقل ضرر ممكن في مجتمع يتشارك فيه الحياة مع آخرين. والتّنشئة على القوانين والعمل بها يضبطان سلوكه ويردعان النّزعة نحو العمل السّيئ أو المخلّ بالمجتمع. القانون، القيد الإيجابيّ إن جاز التّعبير، يحمي حرّيّة الفرد وحرّيّة الجماعة. و”حرّيّة الفرد هي المنبع الوحيد لكلّ القيم”، كما يقول سارتر. فكيف للإنسان أن يتبنّى القيم ويتعايش معها ويعيش في هيكليّتها ما لم يكن حرّاً؟ وماذا تعني الحياة الإنسانيّة وما قيمتها ما لم تنعم بالحرّيّة؟ – مفهوم حرّيّة الفرد. “كلّ إنسان حرّ في أن يفعل ما يشاء بشرط أن لا يتعدى على ما لغيره من مثل حريته”، هربيرت سبينسر. إنّه المبدأ العام للحرّيّة الفرديّة، ويبقى لكلّ إنسان القرار في اختيار ما يريد وتحقيق ما يريد والتّعبير كما يشاء شريطة ألّا يسبّب ضرراً لغيره أو يعيق حرّيّته. ولكنّ السّؤال الأهمّ، ما مدى مفهومنا للحرّيّة الفرديّة أو الذّاتيّة بتعبير أصح، وهل الإنسان حرّ فعلاً أم أنّه في طور التّحرّر؟ وهل نسعى إلى الحرّيّة أم إلى التّحرّر؟ لو تأمّلنا حياتنا اليوميّة البسيطة وعلى الرّغم من أنّنا نعتقد أنّنا أحرار ونفعل ما نشاء، إلّا أنّ الكثير من القيود تسيّر حياتنا وتحول بيننا وبين بلوغ الحرّيّة، إذا كان المبدأ المتّفق عليه هو أن نفعل ما نشاء مع احترام حرّيّة الآخر. كالالتزام بوظيفة لا تناسب طموحاتنا، أو مجاورة أناس مختلفين عنّا، أو ارتباط عائليّ غير متوافق… بالمقابل إنّ مفهوم الحرّيّة الفرديّة أو الذّاتيّة يبقى ناقصاً ما لم ندرك معنى أعمق للحرّيّة ألا وهو الحرّيّة الدّاخليّة الذاتيّة أي تلك الّتي تنبع من داخل الإنسان وليست تلك الّتي يبحث عنها خارجاً عنه. الحرّيّة الّتي تجعل النّفس عظيمة والعقل متحرّراً منطلقاً، والّتي تخلص إلى تحقيق الإنسانيّة الكاملة. بمعنى آخر، تحرير الذّات من تناقضاتها ونزعتها لفعل الشّرّ وصراعها بين متناقضاتها، وتحريرها من شوائب عدّة تحدّ من انطلاقها في الحياة وانفتاحها على الآخر. إنّ القوانين الاجتماعيّة وحتّى الدّينيّة والعائليّة لا تنفذ إلى عمقنا الإنسانيّ بل هي رادع ومؤدّب خارجيّ لنا، وبالتّالي ينبغي أن نتخطّى هذا الرّادع ونعبر نحو السّلوك السّليم الحرّ وذلك من خلال تخطّي منهج التّرهيب والتّرغيب وإتقان العمل الإنساني بقرار واعٍ حرّ بدون خوف من عقاب ولا طمعاً بثواب؛ بل إن ما ينفذ إلى أعماقنا بل ويحرّرها هو كيفيّة اتّخاذ القرار ثمّ التّنفيذ، فإن كنّا نقيم فروض الصّلاة طمعاً بالسّماء أو خوفاً من النّار، فليست صلاتنا سوى ثرثرات تريح ضمائرنا. وإن كان التزامنا الدّينيّ خوفاً من أن نلقى مصيراً بائساً فالتزامنا غير قائم على حرّيّة الممارسة لأنّنا ضمنيّاً لا نريده ونتظاهر بذلك. كذلك في ما يخصّ القوانين الاجتماعيّة، بحيث أنّنا إن طبّقنا قانون السّير على سبيل المثال خوفاً من القانون فنحن نخضع للخوف وليس لاحترام سلامتنا وسلامة الآخر. كما أنّ هذا الرّوادع القانونيّة والاجتماعيّة قابلة للتّغيير والتّبديل وقد تصلح في مجتمع ولا تتناسب مع آخر، وقد تكون رادعاً هنا ومتاحة هناك. إنّ بلوغ الحرّيّة يتطلّب مسيرة متواصلة من التّحرّر الدّاخليّ أوّلاً، حتّى نرتقي إلى الحرّيّة الحقيقيّة. والتّحرّر الدّاخلي يبدأ لحظة يقرّر الإنسان أن يقف بشجاعة أمام ذاته ويبحث عن تناقضاتها وجوانبها المظلمة. ويحتاج هذا التّحرّر إلى محبّة الذّات والتّواضع، محبّة الذّات كقيمة إنسانيّة استثنائيّة تستحق الحرّيّة كي تبدع وتتحقّق جمالاً في هذا العالم، والتواضع بغية الاقتراب من ذواتنا أكثر واكتشاف جوانبنا المظلمة الّتي تأسرنا وتعيق تحررّنا من ذواتنا فننطلق. هي الوقوف أمام الضّمير والاعتراف بأنّ ذواتنا مرتبطة بعبوديّات كثيرة قد لا نكون مدركين لها.
– بلوغ الحرّيّة الذّاتيّة: إنّ المطالبة بالحرّيّة حقّ مقدّس بقدر ما الحرّيّة هي حقّ مقدّس، وحتّى لو ولدنا في مجتمعات تقدّس الحرّيات وتحترم الحرّيّة الشّخصيّة إلّا أنّ الحّريّة تبقى في الأساس واقعاً إنسانيّاً داخليّاً مرتبطاً بالعقل والعمق الإنساني قبل أن تكون واقعاً معيشاً اجتماعيّاً. فحتّى لو كنّا أحراراً إجتماعيّاً إلّا أنّه ما لم نتحرّر من دواخلنا فنحن ما زلنا عبيداً لأنفسنا. لا ريب أنّ الحرّيّة الاجتماعيّة أمر لا بدّ من المطالبة به والنّضال من أجله، ولكن الخطوة الأولى للحرّيّة تبدأ انطلاقاً من الذّات. وللولوج في معاني هذه الحرّيّة يلزمنا أن نكتشف قيود الدّاخل الإنساني حتّى نتمكّن من التّحرّر منها فنبلغ حريّتنا المنشودة. ولكلّ منّا قيوده وتتباين من فرد إلى آخر، ولكنّنا نشترك بقيود عدّة تتمكّن منّا وتأسرنا وتمنع عنّا الانطلاق للبحث عن الحرّيّة الخارجيّة. – القيود الدّاخليّة: الإنسان تركيبة غريبة عجيبة، تحمل الكثير من التناقضات، والرّغبات، وجوانب مظلمة قد يمضي الواحد منّا عمراً كاملاً ولا يعرفها. تلك الجوانب هي الّتي تحرّك الإنسان أحياناً وتدفعه لفعل ما لا يريد فعله، وبما أنّه يجهلها سيجهل بالتّالي أسباباً كثيرة لأفعال كثيرة يمارسها. كما أنّ التّركيبة الإنسانيّة تحمل في ذاتها الرّغبات والشّهوات والميول الّتي يكتشفها الإنسان وهي الّتي تتحكّم فيه إن لم يتمكّن من لجمها أو تطويعها أو السّيطرة عليها. ومهما تحرّر الإنسان اجتماعيّاً وحياتيّاً، لا يكون حرّاً ما لم يمتلك القدرة على السّيطرة على رغباته وشهواته والتّحكّم بها. بالمقابل، غالباً ما تهاجم عقولنا أفكار رديئة لا إراديّاً، ناتجة عن ذكريات معيّنة أو ظروف نمرّ بها أو مررنا بها، كأفكار الانتقام من الآخر أو أذيّته أو انتقاده سلبيّاً أو إيذاء أنفسنا، وكلّ هذا في إطار التّفكير وليس بالضّرورة أن يتحوّل إلى فعل. تلك أنواع من القيود الّتي تؤرق العقل الإنساني والنّفس الإنسانيّة، وتحرّر الإنسان منها يتحدّد بقدر تمكّنه من لجم هذا الأفكار والسّيطرة عليها وعدم تحويلها إلى فعل. ولا ننسى الخوف العامل الطّبيعي الحاضر في الكيان الإنساني، ويتحوّل قيداً إذا ما استُغلّ في سبيل السّيطرة على الآخر والاستحكام به. وهذا الخوف السّلبيّ حاضر فينا وهو المعيق الأوّل لتحرّرنا من ذواتنا. الخوف من رأي الآخر فينا، الخوف من انتقاد الآخر لمظهرنا أو فكرنا أو سلوكنا، الخوف من الموت… بين حرّيّة الذات والعبوديّة لها يقع عامل الإرادة الّذي يجعلنا مسيطرين على ذواتنا وليس العكس. فالحرّيّة ليست أن نفعل ما نشاء بقدر ما هي ألّا نسمح لأمر أو شخص أن يسيطر علينا. يقول الفيلسوف ” Talleyrand “: ” الموت هو فعل حرّيّة بامتياز”، لأنّ بالموت يتحرّر الإنسان من كلّ قيد جسدي وفكري وروحي… وعندها فقط يبلغ الحرّيّة الكاملة والمطلقة. أمّا طالما أنّه يحيا في هذا العالم فهو ملتزم بقيود كثيرة وعديدة ويتحرّر منها تدريجياً وإن وصل إلى التّحرّر من سيطرة الرغبات والشّهوات والخوف، وارتقى بنفسه عالياً حتّى يبلغ رتبة الأصفياء والقدّيسين، يبقى خاضعاً لعالم المادّة وبالتالي تبقى حرّيّته ناقصة. أولى خطوات الإنسان نحو التّحرّر هي تلك الّتي تبدأ من داخله وليس العكس، فيسهل بحثه عن الحرّيّة ويستقيم سلوكه الفكري والعاطفي والرّوحيّ. وليثبت في هذا البحث ويبلغ هدفه يحتاج الإنسان بشكل أساسيّ إلى عاملين أساسيّين اللّذين يقوداننا إلى تعريف الحرّيّة الشّخصيّة الذّاتيّة ألا وهو أن يكون الإنسان حرّاً أمام نفسه. – العامل الأوّل: المحبّة المحبّة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحرّيّة الشّخصيّة والعامة في الوقت عينه. وأن نفعل ما نشاء دون السّماح لأمر أو فكر أو شخص أن يسيطر علينا، متّصل بمحبتنا لذواتنا أوّلاً ومحبّة الآخر حبّنا لذواتنا ثانية. وأيّ أمر داخليّ نفسيّ يحرّكنا ويدفعنا لفعل ما يتحكّم بنا، يقودنا إلى العبوديّة وليس إلى الحرّيّة. إنّ حبنا لذواتنا كقيمة إنسانيّة تستحق الاحترام والحرّيّة يمنع عنّا أي فعل يهين كرامتنا الإنسانيّة وبالتّالي كرامة الآخر. فالفعل الإنسانيّ النّاتج عن فكر أو رأي أو تعبير، ما لم يأخذ بعين الاعتبار الكرامة الإنسانيّة يبقى فعلاً دنيئاً يمارس تحت غطاء الحرّيّة ليصل إلى مأرب معيّن؛ كمن يقتل الآخر بحجّة الكفر، أو بحجّة الانتقام، فهذا الفعل ينضوي على استعباد الآخر وإهانة كرامته الإنسانيّة واعتبار أنّ الحقّ يفترض التّخلّص منه حتّى تحيا الإنسانيّة حرّيّتها. أو كإهانة الآخر تحت ما يسمّى حرّيّة الرأي والتّعبير فتكون النّتيجة انتهاكاً لكرامته الإنسانيّة. والعكس صحيح، التّعبير عن الرّأي بمراوغة تحت شعار الدّيبلوماسيّة في إبداء الآراء تكون نتيجته فعلاً منافقاً وكاذباً. المحبّة هي المعيار الثّابت والأكيد لتخطّي كلّ أنانيّة ونفاق واستحواذ على الذّات وعلى الآخر، وبالتّالي من يحبّ يأخذ بعين الاعتبار الذّات الإنسانيّة بما تحمله من كرامة وقيمة. – العامل الثّاني: الضّمير الحرّ هو من وقف أمام نفسه وتصرّف بصدق ودون مواربة، حتّى وإن لم يكن بإمكانه ممارسة حرّيّته الاجتماعيّة. ومتى وقف الإنسان أمام ضميره وأصغى له وجد أنّ كلّ سلوك أو فعل أو تفكير مباح له وإنّما ليس كلّ شيء يوافق كرامته الإنسانيّة. والحرّ هو من لا يسمح لخوف أو فكر أو سلوك أو اختبار أو جماعة أو أيديولوجيا أن تسيطر عليه، عندها فقط يمكن للإنسان القول أنّه تحرّر. الحرّيّة بدون محبّة فوضى قاتلة وعبثيّة، وبدون وقفة أمام الضّمير انتحار غير مباشر للذّات وجريمة بحقّ الإنسانيّة. فاحبب وافعل ما تشاء، واعتبر أنّ كلّ شيء مباح لك ولكن ليس كلّ شيء يوافق كرامتك الإنسانيّة وشخصك الّذي يحمل في ذاته قيمة ثمينة لا يحق لأحد ولا حتّى لذاتك أن يزدري بها.