اعتمد تراث الأوليين في تكوين الإنسان المنهجي النظر، علي تقسيم العلوم إلي ثلاثة أنواع: ما جاء منها عن طريق البديهة، وما جاء منها عن طريق الحواس، وما جاء منها عن طريق الاستدلال، وأفضوا القول في تواتر الأخبار، ان الخبر المتواتر أصل من أصول العلوم، شريطة ان يستوفي التواتر الصحيح أركانه.
هذا كله مؤد إلي تربية عقلية يحتاجها المثقف كائنا ما كان عصره، ولكن تطورت العلوم ومناهجها وطرق البحث فيها تطورا لم يكن ليحلم به احد من الأوليين، والغريب هنا ان نظريات العلوم الطبيعية وقوانينها لا علاقة لها بكون العالم أزلي أو انه مخلوق، بل ماذا سوف يتغير من نظريات العلوم وقوانينها ان تعرف صانع العالم المولي عز وجل وصفاته وأسماءه وعدله وحكمته ورسله وأنبياءه! ولكي أكون واضحا في هذا الموضوع فلست اعني علي الإطلاق إلا نؤمن بالله سبحانه وتعالي خالق السنوات والأرض، ولكن هذا الإيمان بأني اشهد أن لا اله الله وأن سيدنا محمد رسول الله شئ والعلوم والطبيعة والرياضيات وميادينها وقوانينها شيء أخر.
فقد يكون أعلم علماء الأرض مؤمنا وقد لا يكون عارفا بصانع الكون أو جاهلا به.
والأمثلة علي ذلك عالمنا كثيرة، مثال ارمسترونج الأمريكي أو رائد الفضاء الروسي جاجارين الذي ذهب إلي القمر ايضا وعاد ليقول: اين رب المسلمين هذا؟
لم نره! ونسي انك لا تري رب الكون ولكنه يراك، سبحانه خالق الأرض والسماوات كيف ندرك من خلق؟! وقد عجزنا علي ادراك ما خلق.
ان شرط معرفة الذات الإلهية ضرورة حتمية حين يكون معني العلم التفقه في الدين واحكام الشريعة وفي المعاملات بين الناس، وأما حين يكون معناه الكشف عن قوانين الضوء والصوت والكهرباء وعلوم الذرة، ثم تطبيق هذا الكشف كما نراه اليوم، فعندئذ لا شأن للايمان الديني به إلا في الاعتراف بقدرة الله سبحانه وتعالي علي خلق العقول. وفي هذه التفرقة يمكن ان نصل إلي أهم الأصول الهادية حين نتحدث عن المعاصرة العلوم وتقنياتها وتطبيقاتها والايمان الديني لان المعاصرة لا تتنافي ولا تتأيد بالايمان الديني فنجد الجهمية ـ جماعة نسبة إلي جهم بن صفوان المتشددين من أهل الإسلام كما وصفهم عبدالقاهر البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق، يقفون في طرف اليمين المحافظ، علي حين وقفت جماعة المعتزلة علي ان تأويل آيات القرآن الكريم لتتفق مع احكام العقل، اصر الجهمية ان يتمسكوا بحرفية النصوص، وقالوا نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة، ولا نتعرض للتأويل وقد امسكوا عن تفسير الآيات وتأويلها لأمرين:
اولهما: المنع الوارد في التنزيل من قوله سبحانه وتعالي: “وما يعلم تأويله إلا الله” صدق الله العظيم سورة الـ عمران 7.
والثاني هو: أن التأويل أمر مظنون بالاتفاق، ولا يجوز القول بالظن في صفات الله سبحانه وتعالي، فها نحن إمام فكرين: احدهما يلتزم النص ويعطل صلاحية العقل الانساني للتأويل والتفسير، والأخر يعتمد كل الاعتماد علي العقل هاديا في فهم التنزيل بتفسيره وتأويله ـ إلا أن هنري كوربان في كتابه تاريخ الفلسفة الإسلامية قد طرح موقفا وسطيا بين الطرفين مستندا إلي النظامية ـ وهم اتباع ابراهيم بن سيار النظام، وانتهي إلي إلا نجعل العقل كل شيء كما اراد المعتزلة.
فمن جهة العقل وحده لا يكفي لدعم الدين، كما ظن المعتزلة وذلك لان الايمان بالغيب مثلا مبدأ اصيل في الحياة الدينية، ولكن الغيب يتجاوز حدود البرهان العقلي، وعليه بالعقل وحده لا يكفي، فلماذا إذا لا نجعل المسألة مشاركة بين العقل والايمان معا، وكان لابي حامد الغزالي موقف شبيه بهذا في مدي ما يتركه للعقل حيال النص القراني: فللعقل ما يستطيعه من تحليل وتفسير وتأويل، والايمان ما تقتضيه مبادئ الدين اصوله، مما يتجاوز حدود العقل، وبهذا يكون لكل من العقل والايمان ميدان وينحسم كل الخلاف.
لكن في حاضرنا اليوم كثير من الناس خدعوا وخادعوا باسم الدين لا يقبلون ما هو واضح بذاته علي انه حق.
ان نبدأ بالشك وصولا إلي ما هو حق، وان نبدأ بالشك اسقاطا لما هو حق ليس من الحكمة او الذكاء.
فالقول واضح: صحوا نومكم يا أهل هذا العصر! لقد حل اسلافنا العقدة منذ قديم الزمان، فضرب من الخمول الفكري، ولو كان ليطول معناه بقاؤه، فلا أظن ان الأمل قريب في نهوضنا نهوضا بالفعل لا بالكلام، وبالفكر الحي لا بالتثاؤب ونحن نيام، فقد يكون اللفظة واحدة ومضمونها مختلفة علي ألسنة المعاصرين، عنه علي السنة الأوليين. فالعقل الناضج هو الذي يسيطر علي الفكرة ولا يتركها تسيطر عليه، ذلك بان الذي يسيطر علي الفكرة يمكنه ان يقبلها وان يرفضها، ان يحررها وان يطورها، اما الذي تسيطر عليه الفكرة فيمكنها ان تستبعده وان تجمده، ان تسيره وان تقوده، ومنها ما يوغل به في بيدات وعرة، وتقضي عليه، فالعقل الناضج هو الذي ينفتح علي الأفكار فيقودها ولا ينغلق عليها فتقوده.
هذا هو نفسه الموقف الذي أريده لأبناء عصرنا بعد الثورة، ان يستخلصوه من تراثهم.
وهو ألا يجعلوا بين العقل والايمان تعارضا، بل يجعلوا بينهما تعاونا في كل المجالات الحياتية، للوصول إلي هدف واحد، فلكل من الاداتين قسطها من الفهم وتنظيم السلوك الانساني، فاذا شئنا ان يكون لنا موقف نستمده من تراثنا الإسلامي الأصيل، فلنجعل الدين موكلا إلي الايمان ونجعل العلم موكلا إلي العقل، دون ان نحاول امتداد اي من الطرفين ليتدخل في شئون الآخر.
