ملل.. ملل.. أينما تولي وجهك تجد الملل أمامك، كل يوم منذ قيام الثورة في المحروسة، يحدث جديداً، تشعر أن الأحداث تخدم برامج ” التوك شو”، ومع ذلك فلا جديد في المعالجة. عشرون ضيفاً يقولون نفس الكلام تقريباً، حفظنا ما يقولون إلى حد الملل، ولا جديد في أداء مقدمي هذه البرامج، الذين غلب عليهم دور ” المعددة” في الجنازات، التي تعدد مناقب الفقيد، وعقب كل ” كوبليه” تطلق الصيحة الكبرى، وما تقوله لا يتغير، في كل جنازة.
برامج ” التوك شو” تحولت إلى ” مناحة”، ولميس الحديدي تذكرني بدور “المعددة” وكذلك بعلها ومعهما إبراهيم عيسي ، وكأنهم حصلوا علي “مقاولة” تشييع الموتى إلى مثواهم الأخير، لكن هناك من يحاول أن ينافسهم في ذلك، فزميلنا جابر القرموطي يطلق لحنجرته العنان، وفي كل ” وصلة تعديد” أقول: لقد مات الفتي، لكنه يفاجئني بأنه علي قيد الحياة، فعمر الشقي بقي.
في فترة وجيزة حدثت ثلاث وقائع، الأولي هي الخاصة بخطف الجنود المصريين في سيناء، والثانية هي صدور حكم المحكمة الدستورية الذي أكد علي حق العسكريين في التصويت للانتخابات، أما الواقعة الثالثة فقد تمثلت في قنبلة سد النهضة الأثيوبي الذي سيؤثر علي حصة مصر من مياه النيل، يبدو أن ” النهضة” هي عنوان لكل الكوارث.. ” النهضة حزباً.. والنهضة برنامجاً.. والنهضة كوبري”. وعليه اقترح مشروباً باسم النهضة، من يشربه يلحق بالأمجاد السماوية في التو واللحظة.
أحداث مختلفة، ومعالجة واحدة، فالمذيع أو المذيعة تنصب المناحة، ثم تستدعي من يشاركها ” الوصلة”، وفي غيبة من المتخصصين، فالضيوف من جرحي حكم الإخوان، وبعضهم راهن علي ثنائية الحكم في وجود المجلس العسكري بجانب الرئيس المنتخب، لكن كانت المفاجأة التي لم يتوقعها احد ولا أنا شخصياً، أن الدكتور محمد مرسي أطاح بحكم العسكر، فخلف قراره أرامل وجرحي وضحايا، من يومها يتصرفون “كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران”!.
ينام الواحد منهم، ويحلم بعودة حكم العسكر، وبعضهم تمني انقلاباً عسكرياً وطالب به، مع أن المطالبين بذلك كانوا يقدمون أنفسهم علي أنهم من دعاة الدولة المدنية وأنصارها في منطقة ” غرب الدلتا”.
ذكروني في انحيازاتهم بموقف الكاتب الساخر الراحل محمود السعدني الذي عبر عنه بسخريته المعهودة في أول لقاء له بالرئيس السادات بالكويت في جلسة مصالحة، علي طريقة ” قعدات العرب”، إذ ذكر بأنه عندما تم اعتقاله، سأل عمن اعتقله فقالوا وزير الداخلية، ومن يومها شعر أن اقوي رجل في مصر هو هذا الوزير، فكان أن أقام علاقة صداقة به، ليكتشف علي الرغم من ذلك أنه تم اعتقاله ثانية، ونظر حوله ليجد أن من يجلس بجواره في المعتقل هو وزير الداخلية، وهو شعراوي جمعة الذي اعتقله السادات فيما عرف بحربه علي مراكز القوى.
أخطاء في الحسابات، لكن الحكم الإخواني ليس قادراً بحكم النشأة والتكوين على استيعاب القوم، فقاموا بدور المعارضين، وعندما توصد أبواب الأمل لا يكون أمام المرء إلا أن يتعلق في حبال الوهم، فقد سيطر عليهم إحساس ليس له ما يدعمه بأن انقلاباً عسكرياً وشيكاً سيحدث، يدخل الإخوان علي أثره السجون، وينتقلوا هم علي أثره إلى القصر الجمهوري.
الحكم الإخواني
في مواجهة سد أثيوبيا تتنقل بين المحطات الفضائية فلا تجد سوى تهاني الجبالي، وسامح عاشور، وجمال زهران، وممدوح حمزة، ورجائي عطية، وشوقي السيد، وزيد وعبيد، وعندما تقع أزمة خطف الجنود فأنت علي موعد مع زيد وعبيد وسامح عاشور، وجمال زهران، وممدوح حمزة، وتهاني الجبالي، وأعتقد أن الفضائيات لو ناقشت سر التغييرات المناخية، وارتفاع درجة الحرارة في مصر هذه الأيام ليكون الحر فهيا كحر الرياض، فسوف يكون الضيوف هم تهاني الجبالي، وممدوح حمزة، وسامح عاشور، وجمال زهران، وزيد وشقيقه من الرضاعة عبيد!.
وبطبيعة الحال فان الاتهام جاهز، وهو دور الحكم الإخواني في التأثير في ” الدورة المستندية” للشمس، وقد نكتشف بفضلهم أن المسؤول عن ثقب الأذون هو خيرت الشاطر نائب المرشد العام للجماعة، فقد أرسل حسن مالك في السر في رحلة مكوكية إلى المريخ، وتمكن بمساعد قطر، وقناة الجزيرة، من إحداث هذا الثقب.
وعلي ذكر قناة الجزيرة فإنها صارت احد عناوين الملل في المنطقة، وصار أداؤها مملاً وباعثاً علي السأم، بعد أن أخذت علي عاتقها مهمة إسقاط نظام الأسد، واحتشدت من اجل هذا، لكن هذا النظام بدا إلى الآن عصياً علي السقوط، لأن من بيده عقدة الأمر في البيت الأبيض لم يتخذ قراره بعد.
لا أذكر آخر مرة شاهدت فيها برنامج ” الاتجاه المعاكس”، لكني أذكر ان آخر عهد لي به، أن صاحبه فيصل القاسم جعله منبراً هدفه إسقاط نظام الأسد، فكرر نفسه، وان كان يغير في ضيوفه بخلاف الأشاوس عندنا، فان الكلام تقريباً واحد.. ولا جديد، وقد افتقدنا مع تولي وضاح خنفر المسؤولية في الجزيرة برنامجاً رصيناً هو الذي كان يقدمه سامي حداد، لكن وضاح غادر غير مأسوف عليه، ولم نشاهد سامي حداد.
كان صخب فيصل القاسم مهماً في البداية، عندما كان الحديث في تلفزيوناتنا همساً، لكن الآن وقد أصبح الصخب هو القاعدة، فنحن بحاجة إلى مناقشات هادئة ورصينة.
الفضائيات صارت منصات لإطلاق الصواريخ، وأماكن لتقبل العزاء، فما ان تذهب إلى فضائية حتى تشاهد صريخاً، ومن إبراهيم عيسي، إلى لميس وبعلها، إلى رولا خرسا، إلى جابر القرموطي، الذين ينتجوا حالة من الضوضاء تؤثر علي أعصاب المشاهدين.
والموضوع الواحد وان اختلفت الأحداث هو الهجوم علي الحكم الإخواني، وهو يستحق الهجوم، فهو حكم فاشل، ويكفي أنه جاء والثوار امة واحدة فبدد الشمل، وسعي للهيمنة، والانفراد بالسلطة.. اشربوها. فالمشكلات التي تعاني منها مصر اكبر من أن يتولي حلها تيار بعينه، لكن ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر، بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه: ألا توجد حسنة واحدة تحسب للرئيس مرسي، ولو علي قاعدة انه أحسن من حيث يظن انه يُخطئ؟!
ولعل الهدف من عدم جلب المتخصصين، عند مناقشة أزمة إقليم قناة السويس، أو تحدي سد النهضة في أثيوبيا، أن هؤلاء لن يكونوا جزءاً من حملة لطم الخدود وشق الجيوب، حتى عند تأكيدهم أن هناك أزمة حادة، فالمطلوب هم أصحاب الصوت العالي، الذين يكرهون الإخوان، ويبحثون عن مبررات الكراهية.
الضيف المذيع
القائمون علي البرامج ليس لديهم وقت للاجتهاد، وهم ينطلقون من نظرية من نعرفه أفضل ممن لا نعرفه، فليس لديهم وقت للبحث عن جدد يمثلون تغييرا للمناظر، ما دامت الموضوعات واحدة، ولهذا فلا مناص من ضيوف من نوعية: تهاني الجبالي، وسامح عاشور، وجمال زهران، وزيد وعبيد وأمهما.
يبدو أن هذه القنوات تستهدف من هذه ” المقررات الدراسية” ألا يشعر المشاهد بالغربة عندما يشاهد ضيفاً ليس معتاداً عليه، ولهذا يخرج معتز عبد الفتاح من برنامج عماد أديب علي ” سي بي سي” ضيفاً، ليدخل الأستوديو في البرنامج التالي مذيعاً، وقبل أيام كنت أسير في مناكبها فشاهدت إعلاناً يزف إلى الأمة خبراً سعيداً يتمثل في أن معتز سيطل علينا من شاشة ” المحور” مذيعاً، مع احتفاظه بطبيعة الحال بدوره في ” سي بي سي” مذيعاً، وضيفاً، ومشاهداً في أوقات الفراغ.
فكرة برنامج ” ساعة مصرية” علي قناة ” روتانا” فقدت وهجها لتكرار الضيوف، وصار البرنامج مثل ” شوربة الفول النابت”، وهي من لا يعلم منزوعة الدسم، علي العكس من ” شوربة البط” مثلاً، ولاسيما البط الذي جرى ” تزغيطه” يدوياً، وقديماً قال الإعلامي الرائد في أعمال الجنازات توفيق عكاشة علي قناة ” الفراعين”، لو عرف الدكتور محمد البرادعي طريقة ” تزغيط ذكر البط”، فسوف يسلم له بصلاحيته لتولي منصب رئيس الجمهورية.
برنامج ” ساعة مصرية” يستضيف يومياً أربعة ضيوف لا يتغيرون إلا في الشديد القوي، فعندما يقدم هاني صلاح ممثل الإخوان برنامجه علي ” مصر 25″ فضائية الإخوان الجبارة، يحل محله إبراهيم الدراوي، الذي عاد مرة أخري بعد منع بسبب الحلقة التي أنهاها الضيف المذيع قبل موعدها بثلث ساعة، بسببه، عندما ذكر واقعة القبض علي كريمة حمدين صباحي المرشح الرئاسي السابق فثار عليه عبد الحليم قنديل ثورة عارمة، وساعده في الثورة باسل عادل المذيع الضيف، فلدينا في مصر ترقيات في مجال الإعلام سيؤرخ لها بمشيئة الله تعالي، تتمثل في أن يصبح المذيع ضيفاً والضيف مذيعاً، وقبل ساعات من كتابة هذه السطور شاهدت مجدي الجلاد، في قناة “القاهرة والناس” ضيفاً ويردد اسطوانة قديمة وهي أن الإخوان جاءوا للثورة متأخرين، وفي القطار الأخير لها.. ربما جاء قبلهم مجدي الجلاد.
مللت من التأكيد من أنني شاهدت في اللحظة الأولى لمشاركتي في الثورة في يومها الأول خصمي التاريخي محمد البلتاجي، فلما جن الليل شاهدت صفوت حجازي في ميدان التحرير وأمام المتحف المصري خطيباً، ولم يكن معروفاً لي حينها، وان كان هناك من اخبرني أنه نجم من نجوم الفضائيات الدينية التي كنت أمر عليها فزعاً من أحد شيوخها وهو يخفض صوته ليظهر الود العذري وهو يقول ما معناه: ” صلي علشان احبك” ثم يرتفع صوته وهو يصرخ: “صلي وإلا ضربتك بالدرة علي قفاك”، حينها كان يستقر في وجداني أن يده الشريفة يمكن أن تخرج من الشاشة لتصفع المارة في الشوارع.
في كلتا الحالتين فان الأمر مفزعاً، سواء أحبك الشيخ أم غضب عليك، فلا أظن أنني ممكن أن اطرب لحب فضيلته لي.
مبارك محمولاً
لا بأس، فالإخوان جاءوا إلى الثورة متأخرين وسرقوها من أيدي من مفجروها: مجدي الجلاد، ولميس الحديدي التي قالت ان دمنا الذي ” راح” في الثورة، و لن اندهش لو خرج مبارك من السجن وشوهد محمولاً علي الأعناق وهو يهتف: “ثوار أحرار.. سنكمل المشوار”.
غريبة الثورة المصرية هذه، أبحلق في وجوه الذين يتحدثون باسمها في شاشات الفضائيات، فأتذكر نداء القذافي رحمه الله: ” من أنتم”؟!.
نحن في زمن العناوين الخطأ، يا قراء، فقضاة مبارك صاروا هم قضاة الاستقلال، وأحزاب مباحث امن الدولة شكلت فيما بينها ما سمي بتيار الاستقلال، و” ساعة مصرية” أحياناً تصبح ساعتين، وأحيانا تصبح ” ساعة هندية” لان الكلام فيها ليس مفهوماً مثل حلقة يوم الخميس الماضي، وقد ضبطت طارق الزمر رئيس المكتب السياسي لحزب ” البناء التمنية” غائباً، وحل آخر محله، و في البداية لم يكن أحداً من الضيوف الأربعة يغيب أبداً، ثم فتح هاني صلاح الباب للغياب بسبب برنامجه في قناة ” مصر 25″ الجبارة.
تامر أمين مقدم البرنامج، جاء بإبراهيم الدراوي عن الإخوان المسلمين ليقاطعه، فتامر لا يقاطع أحداً غيره، وبسبب المقاطعات المتكررة لم أعرف ماذا كان يريد إبراهيم أن يقول؟.. لكن بدا كل الكلام باهتاً، وفكرة الضيوف الدائمين أثبتت فشلها، وكان يمكن أن يكون التعاقد حصرياً، لأنهم يأتون من برامج أخرى إلى ” روتانا” منهكين، ويخرجون من أستوديو ” روتانا” لينتشروا في الفضاء، ومن فضائية إلى فضائية.
في ظل حالة الرتابة والملل، فقد أطلقت شبكة ” سي بي سي” قناة ” سفرة”، فلا تكاد تدخل بيتاً إلا وتجد الأسر ملتفة حولها، ويدور النقاش حول الوصفات وطريقة تعامل الشيف مع الطعام، وسوف يصبح الطهاة هم نجوم الشاشة مستقبلاً إن أصرت الفضائيات الأخرى علي الرتابة الباعثة علي الملل.
لم تعجبني طريقة ” الشيف ماجي حبيب” في “تفعيص” اللحوم بأظافرها الطويلة، في حين دهشت لحفاوة “ربات البيوت” بالشيف الشربيني، وقد تلقي سيلاً من الاتصالات الهاتفية، التي تعرب عن افتقادهن له، وسألت وعلمت أنه اختفي منذ فترة من قناة “الحياة” دون إعلان، وقد مثل ظهوره في ” سفرة” مفاجأة سارة لهن، فكانت هذه الحفاوة، وقد وجدن في هذه الفضائية السلوى لتحدي الملل، الذي تسببت فيه فضائيات الموضوع الواحد، والضيوف المقررين علينا قبل الأكل وبعده.
الخوف أن تفسد هذه الشعبية الجارفة ” الشيف الشربيني” فيعلن عن ترشحه لمنصب رئيس الجمهورية.. عندئذ يفقد تميزه ويصبح شبيهاً بلميس الحديدي، وتصبح ” سي بي سي سفرة، كـ ” سي بي سي” بدون سفرة.
صحافي من مصر