نحن اليوم في زمن الحرب العالمية الثالثة. حرب اتخذت هذه المرة طابعاً جديداً، واتبعت نهجاً مختلفاً، إلا أن الأهداف كانت ولا زالت هي هي والنتائج هي نفسها. فإن كانت الحروب العالمية السابقة تهدف إلى تقسيم البلدان إلى دويلات، فإن هذه الحرب ترمي إلى تقسيم التقسيم وتفتيت الدويلات إلى قطع متفرّقة يسهل فيما بعد السيطرة عليها. وإن كانت الحروب الفائتة قد كلّفت متبنّيها أثماناً باهظة، فتلك اليوم لم تكلفهم الكثير، فلقد تعلّموا من دروس الماضي واكتسبوا خبرة واسعة جعلتهم يدفعون الشعوب إلى الاقتتال فيما بينها وبالتالي لا ضرورة لتدخّلهم المباشر وضمان الإنتصار بدون خسائر تُذكر.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم،وهم يحضرون لاندلاع الثالثة ويدرسون الشعوب ويراجعون التاريخ ويصححون أخطاءهم حتى توصلوا إلى إنتاج أجمل غلاف يغلفون فيه هديتهم السامة لنا: “الربيع العربي”. وككل مرّة وقعت الشعوب في الفخّ، وصدقت أنّها صاحبة القرار في تحرير مصيرها وقررت الإنتفاضة على الفساد، وهيأت نفسها للإصلاح وأطاحت برؤوس زعمائها، وهللوا وابتهجوا وثملوا من خمر النشوة، وبعدها وكالعادة استفاقوا على هول فاجعة وفاجعة هذه الحرب لا مثيل لها “السلطة الدينية”.
سلطة أهلكت بلداناًُ، دمرتها وقضت على ما تبقى فيها من معالمٍ وخيرات وستستمر حتى يشاء أصحاب هذه الحرب تغيير منهجية اللعبة مرة أخرى. والعجيب الغريب والمخيف في الوقت عينه، أنّه ورغم الخسائر الفادحة ورغم العار الذي خلّفه هذا الربيع ما زلنا نرى شعوباً تنجذب نحوه كالمغناطيس أو كتيارٍ لا تنفع معه أيّة مقاومة، وما زالوا يموتون من أجل القضية الخاسرة. وها إنّ الربيع يتخطّى حدود الوطن العربي وراح يأخذ طابعاً أوروبياً، ولن نعلم على من سوف تقع القرعة بعد ذلك حتى “يتمّ المكتوب”. ويستطردني سؤالٌ دائما ما يحاكيني ويؤرقني: كيف لأمم بأسرها أن تغفل عن مؤامرة مكشوفة وجليّة كتلك التي تحاك؟ كيف يمكن لشعوب أن تقع تحت تأثير نفس أنواع المخدّر بعد هكذا عادة؟ أهو جهلٌ أم إدمان؟ لو كان إدمانٌ فالمفروض أن نستفيق منه، على الأقل حتى نطلب ما هو أكثر قوةً وفعاليةً ولو كان جهلاً فمن المفروض أيضاً أن نحيد عن ظلّه فالثقافة تبيت في أحضاننا.
ربما كانت المشكلة تكمن في أننا لم نعد نطرح الأسئلة التي تحتاج إلى الكثير من التمحيص حتى على ذواتنا، نتقبل أي شيء دونما استغراب أو أي ضرورة لعمل فكرنا. لم نعد نبصر فلو كنّا نبصر لعرفنا أن البلدان التي تحتاج حقّاً للثورات، هادئة وساكنة وشعوبها ترزح تحت وطأة الظلم والإجحاف بكل رضى، ولم نعد نصغي حتى نستطيع التفرقة بين الضحية والجلّاد.
إنطلقت الحرب العالمية الثالثة وحطّت رحالها في عالمنا، وها هي تحصد زرعها وتأكل الأخضر واليابس كالأولى والثّانية، ويبقى الفرق بينهم وبيننا هو أنّهم في مدرسة مستمرة أمّا نحن، فالدروس لا تُلقّن للنائمين.