من أجل بناء جدران الثقة، وتفعيل محاور التلاقي علينا أن نسلم لقضاة مصر في محكمتها الدستورية العليا بحسن نيتهم بصدد اجتهادهم في تفسير النص الدستوري الخاص بالمواطنة والمساواة بين جميع المواطنين (م/33)، ومن ثم توصلهم إلى القول بحق العسكريين والشرطيين في التصويت، هذا على الرغم من وجود وجهة نظر أخرى مغايرة تماماً، تدعمها حجج وتفسيرات مختلفة للنصوص الدستورية…
ولكن، ولأن واقع الحال الآن بصدد ما أسفرت عنه الرقابة السابقة للمحكمة العليا، وما انتهت إليه من قرار واجب الإعمال والتضمين من قبل مجلس الشورى في نصوص مشروع قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية, فثمة إشكاليات وانقسامات وتحفظات كثيرة بصدد إعمال هذا القرار الملزم… من أجل ذلك، وفي محاولة بسيطة لتناول الحلول الممكنة لتجاوز هذه الإشكالية، يمكن القول إن هناك توجهات ثلاثة يمكن أن يُعد كل منها مخرجاً من هذه الأزمة المستحكمة والإشكالية المعقدة، ولكل توجه منها وجاهته وأبعاده المصاحبة بالتأثير المباشر، وإن كنا نرجح التوجه الأخير منها ونتمنى سير الأمور على منحاه، وهي على النحو التالي:
التوجه الأول: استجابة مجلس الشورى وإعمال قرار المحكمة الدستورية العليا فورا: لكن لاشك أن الاستجابة لقرار المحكمة ستُصاحب بآثار غير معلومة في أبعاد تأثيرها، منها الأثر المؤكد بإضافة كتلة تصويتية جديدة غير هينة سيترتب عليها إحداث تعديل في خريطة التصويت في الانتخابات القادمة مباشرة، سواء انتخابات مجلس النواب، أو انتخابات مجلس الشورى بعد حكم الدستورية الأخير بشأنه، ثم الانتخابات الأهم والأكثر تأثراً بهذه الكتلة التصويتية الجديدة وهي الانتخابات الرئاسية في عام 2016… ولكن الأخطر من ذلك هو الأثر المتمثل فيما قد يسببه هذا التصويت غير الواضحة آلياته أو معالمه بعد من تهديدات للأمن القومي المصري, وذلك بصدد أعداد العسكريين خاصة، وأماكن تواجدهم وتوزيعهم، وآليات تصويتهم وكيفية الرقابة القضائية على هذا التصويت إلخ… ناهيك عما سيُحدِثه ذلك من انقسام وتحزب في هاتين المؤسستين (العسكرية والشرطية) اللتين تقومان على الوحدة والانضباط والتوجيه النافذ، هذا برمته في ضوء نتائج تجربة مصرية سابقة سُمح فيها بتصويت العسكريين في الانتخابات ما بين عامي 1956 و1976م، كانت لها آثارها السلبية التي حملت المشير محمد عبد الغنى الجمسي وزير الحربية آنذاك على التعبير عن استيائه من الزج باسم القوات المسلحة في الأزمات السياسية المتعلقة بالانتخابات، وطلبه من الحكومة وقف تصويت العسكريين وهو ما قد كان.
التوجه الثاني: تدخل الرئيس ودعوته لإجراء استفتاء شعبي على القانون؛ فالرئيس بصفته حكماً فصلاً بين سلطات الدولة الثلاث؛ التنفيذية والتشريعية والقضائية يمكنه وبنص المادة الخمسين بعد المائة من الدستور الجديد أن يدعو لإجراء استفتاء شعبي لحل مثل هذه الإشكالية، ولكن هذا الخيار نستبعده مطلقاً؛ لأن اللجوء إليه يعني تلاشي كافة سبل التعاون والتكامل والتفاهم بين سلطات الدولة، ويعكس مظاهر اللدد والخصومة والتربص بين هذه السلطات, وإلا لما اضطرت مصر لحل إشكالية كهذه عن طريق الاستفتاء المعطل لاستقرارها، والمكلف لخزانتها، كما أن اللجوء إلى الاستفتاء يُغذي من وجهة نظر البعض فكرة استقواء الرئيس ببعض صلاحياته في هذه المرحلة لتمرير توجهات بعينها، وكذا انتصاره لفصيل معين تعضده السلطة التشريعية حالياً ضد السلطة القضائية ممثلة في المحكمة الدستورية, الأمر الذي قد يخرج مؤسسة الرئاسة عن حيادها الواجب، ويزيد هذه الإشكالية تعقيداً وليس تقارباً من الحل الأمثل.
التوجه الثالث: التعاون القانوني الجاد بين أطراف الأزمة.. نعم أطراف الأزمة ممثلةً في المحكمة الدستورية ابتداءً ثم مجلس الشورى، ثم المؤسستين المعنيتين بالقرار وهما الجيش والشرطة. وإنا بالفعل لنستبشر خيراً، ونلمح حلحلة في المواقف، تبشر بتفهم لأبعاد الأزمة وأسباب الاختلاف في تفسيرات إنشائها، الأمر الذي قد يسفر عن توافق على حل مقبول. هذه الحلحلة في الموقف المتجمد لاحت بوادرها بالإعلان عن زيارة كل من نائب وزير الدفاع ووزير الدولة للشؤون القانونية والبرلمانية للمحكمة الدستورية، وأن الزيارة كانت لتوضيح مدى تعقد مسألة تصويت العسكر في الانتخابات، وهي بادرة لا شك إن صحت ذات شأن، وتُعد في اتجاه إيجابي، يُعول عليها في توضيح وجهة النظر الواقعية والعملية بصدد المخاطر المحدقة بمصر، ونتمنى أن تجد آذناً صاغية من قضاة محكمتنا العليا.
ثم يأتي دور مجلس الشورى المعول عليه ابتداءً ليأخذ بزمام المبادرة، وذلك من خلال مذكرة شارحة، تمثل تواصلاً وتعاوناً مع المحكمة العليا، ورداً قانونياً يبين فيها المجلس للمحكمة وجهة النظر المغايرة لتفسيرها وتوجهها، والأدلة التي تدعمها، وذلك من أجل توحيد الرؤى، وتجنب التفسير الأحادي، والأخذ بالتفسير الجامع المُؤسس على الجمع بين كل النصوص الدستورية ذات الصلة سواء نص المادة 33 الذي عولت عليه المحكمة في قرارها، أو البند الثامن من ديباجة الدستور والذي جاء فيه أن: “الدفاع عن الوطن شرف وواجب، وقواتنا المسلحة مؤسسة وطنية محترفة محايدة لا تتدخل في الشأن السياسي، وهى درع البلاد الواقي” ، وكذلك نص المادة 81 من الدستور الجديد التي لا تجيز لأي قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها، فهذا النص لا شك يسوغ للمشرع تكريس شروط وضوابط تضمن صحة تطبيق النصوص على وجهها المبتغى في ضوء عللها، فمثلاً إذا كان حق الترشح والانتخاب من الحقوق السياسية التي تأتي في مقدمة الحقوق اللصيقة بالشخصية، فإن ممارستها لا شك تكون في ظل شرائط وضوابط وليست بإطلاق من باب المساواة؛ فالقانون لا يسمح بها لمن هو دون الثامنة عشرة من العمر مثلاً ولا لمن ارتكب جناية أو جنحة مخلة بالشرف وهكذا..، وأخيراً، الرجوع إلى مضبطة الجمعية التأسيسية إبان دراسة ومناقشة مشروعات النصوص ذات الصلة وما حوته بصدد هذه المسألة تحديداً لاستجلاء مقصود المشرع منها، وربط ذلك برمته بالواقع التطبيقي للخروج بالتفسير الأمثل المتكامل الذي يربط النص بمقصوده وعلته، وواقع تطبيقه العملي.
ولا شك أنه في هذه الحالة ستتوحد الرؤى المختلفة، لتفوز مصر برؤية موحدة تجتمع عليها المحكمة العليا ومجلس الشورى معاً إن شاء الله، مَناطها إما التخلص من فكرة تصويت العسكريين والشرطيين تخلصاً تاماً وهو ما نأمله – لهذه الأسباب ولفشل التجربة من قبل كما تقدم -، أو على الأقل التوصل لتأجيل إعمالها فترة زمنية معقولة، تضمن مصر في ظلها تحولاً ديمقراطياً آمناً، واستقراراً تاماً، ثم تكريس الضمانات الكافية لنجاح إعمال هذه الفكرة من جديد فيما بعد حين يسمح واقع مصر العملي بتنفيذها.