كنا قد سطرنا بدموع الدم كلمات عبرنا فيها عن ليلة بكاء أسيوط فى حادث قطار منفلوط الذى راح ضحيته أكثر من خمسين طفلاً من حملة القران الكريم ، ووجدت فى قلبى ناراً تغلى براكينها عندما تتجدد الأحزان وسط دموع ملطخة بدماء شباب خرجوا يُعبرون عن آمالهم ، ويشكون إلى الله حالهم والآمهم ، ووسط هتفات مملوءة بالأمل ، تحتضنهم رصاصات الغدر والخيانة ،أياًكان مصدرها وأيا كان مُطلقها فهى رصاصات غدارة وخيانة .
سطرت دماء محمد “المعيد بكلية الآداب ” على صفحات التاريخ أن الحرية لم ولن تقف خلف أسوار ولا قيود ، شاركتها دماء “أبانوب ” وهى ترسخ فى وجدن وعقل وجسم كل مصرى دعائم الوحدة الوطنية والحب والوفاء الذى تربى عليه الشعب المصرى ، تمتزج بهما دماء “محمد عبدالحميد” وهى تصرخ بأعلى الأصوات “بدئنا زرع دعائم الحرية ورويناها بدمائنا” ، وصلت الرسالة إلى قلوب الشباب وهتف بها الجميع لحظات الوداع وأمام قبور الشهداء ” يا شهيد نام وإرتاح .. وإحنا هنكمل الكفاح …صرخات تختلط بأصوات الشباب والرجال والنساء والأطفال الأقباط والمسلمين دوت لها أرجاء أسيوط ” يسقط يسقط حكم المرشد ” تتلوها صرخات ” يا شهيد نام وإتهنى وإستننا على باب الجنة ” .
حقاً عندما نحزن نبكى بدموع العين ، نعم أحياناً تبكى عيوننا حتى تصنع بحاراً ، هكذا حالنا عندما تبكي العيون ، ولكن ماذا عن بكاء القلوب ؟ ماذا عن بكاء أسيوط ؟ ماذا عن بكاء الشوارع والحوائط والميادين التى تلتخط بدماء الشباب فى وقت يطالب فيه القوم بتطبيق شرع الله ؟ ماذا عن بكاء الأرض التى أُستقيت بدماء الملائكة الأبرياء من قبل تتلوها دماء الشهداء برصاصات الغدر.
بكت أسيوط وئنت فى الشهور الماضية ،ولكن هل من مستمع لبكائها ؟ هل من مستمع لصرخات العروس التى كانت قد تزينت ليلة زفافها العام الماضى لقدوم الفارس الهمام ” قبل إنتخابات الرئاسة ” ، تعالت الهتافات وتزينت أسيوط لقدوم الفارس بحصانه الأبيض ، إرتفعت الضحكات ، تناثرت الورود هنا وهناك ، حُفت الموائد بأشهى المأكولات ، لم تمض سويعات إلا وقد ترك الفارس الهمام عروسه لتعانى من آلم الفراق والوحدة ، تقدم أهالى العروس للفارس بالكثير من المطالب مُجملها أن يأخذ الفارس عروسه بعين العطف والحنان وأن ينعم عليهم بروائح الحرية ، طلب أهل العروس من الفارس أن يراعى الله فى عروسه وأن يكون لها الحارس الأمين ، طلبوا من الفارس أن يراعى الله فى أبناءه من العروس التى لم تفرح بعٌرسها ، وعد الفارس أهل العروس بأنه سيجعل أيامها سعادة وفرح وأن يٌنسيها هموم السنوات الطوال الماضية ، وأنه سيحافظ علىيها وعلى أولادها ، وعد بأنه سيسهر لها الليالى لمراعاتها وتعليم أولادها ، وعد ووعد ووعد ولكن …..
لم تمضى إلا أيام قليلة وقد أصبحت العروس فى حالة من الحٌزن لو وزعت على أهل الثقلين لوسعتهم ، تبكى وتئن ولايوجد بعينها دموع، فقد جفت الدموع ، بل تحولت إلى دماً ينزفٌ على أرصفة الطرقات ، واليوم ووسط مطابات بالحرية والسلمية يغرق قلب المدينة بدماء الشهداء السلميين ، وتأبى الأرض أن ترتوى بدماء أبنائها حتى يراها أخوانهم ليستمروا فى المطالبة بالتعبير عن الآلام والآمال التى ظل الشباب والشيوخ يحلم بها طيلة الأعوام الماضية .
تتسأل أسيوط العروس :” كيف أجعلٌ قلبى يستريح ،وقد نزفت عيناى دماً على فراق أغلى ما أملك من زينة الحياة الدنيا ، فلذات أكبادى ، ضنى قلبى ، روحى ومستقبلى ، أملى فى الدنيا ، ملائكة ربما خرج منهم من يٌنصفنى ويأتينى بحقى المسلوب ، وتصرخ مراراً على الغدر برجالها الذين بعثوا روح الأمل لرؤية صباح جديد .
أسيوط تئًن وتتألم قائلة : “إذا كانت الدموع هي بكاء العينون..فماذا عن بكاء القلوب” ؟
لسان حالها يٌجيب : “لا تحزن يا قلبي فلن أتركك تتعذب ، سأبحث عن وسيلة تبكي بها، سأبحث لك عن شيئا يعوضٌك عن البكاء..لكن أرجوك لا تتوقف عن الحياة . رغم أنه ضاع منى أغلى ما أملك من زينة الحياة الدنيا ، لكنى على يقين بأن الله سيُعوضنى خيراً لأنى ما زلتٌ راضيةً بما قسمه الله لى ولن أركع ابداً فأنا جزء من كيان وبناء دعى له رسول الله ” فى رباط إلى يوم الدين “
أسيوط تبكى وتئن لانها ظُلمت من أغلى وأقرب الناس على قلبها ، فقد إختارته فارساً وعريساً لها وخطت بقلمها مكتوباً له قائلة : “لقد عانيت قروناً طويلة أعانى من الظلم والقهر والإستبداد والعبودية والجهل والفقر حتى سمونى بأسيوط المنسية ، وها أنا اليوم أكتب اليك ، لا تتخلى عنى ، لا تتركنى ، لا تتجاهل أن لدينا غداً مشرق لأبناءنا ” ، هكذا عبرت أسيوط العروس فى كلماتها لفارسها الهٌمام ولم تكن تعلم أنه سيتخلى عنها وعن أبنائها فى أول الطريق ، لم تكن تعلم أن دم أولادها لا يساوى عند فارسها التضحية بساعات من وقته حتى يحضر عٌرس أبناءه وهم يرحلون إلى جنة الخلد غير راضيين عن أبيهم ، تاركين له بقايا من دمائهم لن تجف إلى يوم الدين حتى لا يظلم أخوانهم الأخرين ، تركوا له رسالات مكتوبة بدمائهم “لا تتخلى عن أخواننا ولا عن امنا الحبيبة فى أحداث قطار أسيوط ، ولكنه لم يعى وبفهم الرسالة ، واليوم يصرخ إخوانهم بقلوب مميته قائلين :” أيا من إدعيت أنك الفارس الهمام ، لقد حاولت إغتصاب شرفنا ، ووبرزت تتعامل بمعاملة الثعالب الماكرين ، ولكن بات الدرس مفهوماً واليوم نزفت دماء إخواننا تطالب” بالرحيل ” ولكنك لم تعى فى الدرس الأول من النزيف أنه صوت ” زئير الصعيد ” .
أسيوط تبكى وتئن ، لان فارسها إستهان بمشاعرها وتركها وأبنائها اضحوكة بكلمات معسولات قالها لها يوم زفافها ، ولم يعلم الفارس أنها لا تحترمه ولن تجعل له فى قلبها أى مكان لأنه إستهان بأغلى ما لديها ، لم تكَن له فى قلبها إلا كل السخرية ، وتقولها بأعلى الصرخات : كم أنت مجرد من المشاعر ، حين تركت أبناءك يوارون التراب ولم تستقى منهم حتى أخر القبلات ، كم أنت مجرد المشاعر حين تعالت صرخات الأمهات فى كل مكان من أرض الوطن ، وأنت لا تبالى وكأنك تعلمت ” النطاعة ” من نظام بات يظهر من جديد .
أسيوط تئن وتصرخ بأعلى صوتها حتى فزع الأموات من آنينها وصرخاتها، ولكن الأحياء مازال بعضهم فى سكرات وغياهب الضلال ، جلسوا فى سرادقاتهم يتبادلون الفلاشات والظهور أمام الكاميرات ولم يتخذوا قراراً ولم يعتبروا ولم ولم ….
العروس تشتكى إلى الله ولسان حالها يقول : قم يا هذا من مجلسك وإذهب بجوار قبرٍ وقل له يا قبٌر :ماذا يقول لسان حال شهداء أسيوط ؟ سيجيبك لسان الحال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، إرحل ولا تنسوا ليالى بكت فيها أسيوط !!!