أتذكر في مثل هذه اليوم 21 رمضان منذ 35 سنة ، أنني بدأت اعتكاف العشر الأواخر من رمضان مع بعض ممن كانوا أصدقائي وزملائي ، بدأناه في ( المسجد الشرقي القديم ) بقريتنا ( الشعيرة – إيتاي البارود – البحيرة ) . وكان هذا الاعتكاف ( جديد تماما ) على الناس عندنا ، فلم يفعله أحد قبلنا في القرية ، وكان الناس مندهشين ويتعجبون ويتسائلون : ما هذا الاعتكاف ؟ وكيف يصير شكل الإنسان فيه ؟ ولماذا لم نجد آباءنا كذلك يفعلون ؟ وكنا نحاول بيان أننا لسنا في ذلك مبتدعين ، ولا كنا لما وجدنا عليه آباءنا رافضين ، وإنما كنا نحاول أن نكون لسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم متبعين وبهدية مقتدين
وقد بلغ بالناس الاندهاش والاستغراب منا ، وأحيانا الرفض لنا ، أن تعرضنا في هذا الاعتكاف لمواقف متباينة ، بعضها كان طريفا مضحكا ، وبعضها كان سخيفا مهلكا . ومن المواقف الطريفة أن بعض النساء والبنات كن يأتين خلسة إلى باب المسجد ليتفرجن علينا حيث أنه لم يكن في المسجد مصلى لصلاة التراويح للنساء ولا كانت النساء تدخل المسجد أصلا . وكانت أختي الصغرى تأتي لي بالإفطار من ( دارنا ) البعيدة عن المسجد فتتعرض لأسئلة النساء عن هذا الأمر وكيف شكل أخوها مصطفى الآن في هذا الاعتكاف . وكان كل واحد منا يأتيه طعام إفطاره وسحوره مع قريب له ، ولم يكن هناك إعداد لطعام الإفطار والسحور أو القيام الجماعي عليه كما هو في المساجد الآن ، ولم يكن للأوقاف دور في تنظيم أمر الاعتكاف في مساجد القرى . وكنا نلاقي معاناة شديدة لإيجاد مكان في المسجد وقت الظهيرة لقراءة القرآن أو الصلاة ، لأن المسجد كان يمتلئ عن آخره ( بالنائمين على الحُصر أو واضعيها تحت رؤوسهم ) ، وكان يوما صعبا علينا لما علا صوتنا قليلا بقراءة القرآن فأزعجنا أحد النائمين ( أتذكره تماما رحمه الله ) فاستيقظ من النوم وشتمنا ثم أمسك بالسلم الخشبي الصغير وأراد أن يضربنا به ، فهدأنا من روعه واعتذرنا له ، فرجع نائما وكأن شيئا لم يحدث
وكان صعبا علينا أيضا اتهام بعض السفهاء لنا بأننا كنا نلعب ( ظن و بس ، وهما لعبتان كانتا مشهورتان زمان ) في المسجد بالليل ، وقد كان اتهاما ظالما بيقين أطلقه بعض من كان يزعجه وجودنا بالمسجد وقت الظهيرة ويحرمه من متعة النوم فيه . كان ذلك اتهاما ظالما بيقين لأننا كنا نُقسّم الليل بيننا في إمامة الصلاة وقراءة القرآن وقراءة كتب الحديث والسيرة حتي يأتي وقت السحور وصلاة الفجر ، ثم ننام ونستيقظ قبل صلاة الظهر بوقت كبير لنصلي صلاة الضحى ونقرأ في القرآن وفي كتب السيرة والحديث . أما أصعب المواقف فهو ماكان من بعض المغرضين – غفر الله لهم ورحمهم – الذين ألقوا على محراب القبلة – وكان قد تم تجديده حديثا – بعض المواد الزرقاء التي أفسدت زينته ، واتهموا أغلبنا بفعل ذلك الأمر ، وكان هذا الاتهام سببا في إيذاء بعضنا ، ولا تزال آثاره باقية حتى الآن . لكننا أكملنا الاعتكاف إلى آخر يوم ، وبكينا في ليلة العيد – لانتهاء الاعتكاف – بكاء ما بكينا مثله في حياتنا ، وخرجنا صبيحة يوم العيد سعداء بهذه التجربة الجميلة أكثر من سعادتنا بالعيد نفسه . وقد كررت هذه التجربة في العام التالي فاعتكفت وحدي ثلاثة أيام في ( المسجد الغربي ) بالقرية ، ولا أنسى ليلة أن انقطع النور من المسجد قبل الفجر فأوقدت لمبة الجاز ( نمرة عشرة ) وأخذتها وجلست في آخر المسجد بجوار ( النعش ) الذي يشيع فيه الموتي ، وكان خالي رحمه الله أول من دخل المسجد ففزع من المشهد وهمّ بالخروج ، ولم يكن يعلم أنني معتكف في المسجد ، فطمأنته بأنني مصطفى ، فاطمأن ودعى لي بخير
ولكن ما أحزنني حقيقة هو أنني لم أكرر تجربة الاعتكاف منذ ذلك الزمن الجميل إلى الآن ، وكم تمنيت أن أعتكف هذا العام لولا ظروف خارجة عن إرادتي ، ولعل الله يقدر لي هذا الأمر العام القادم إن شاء الله . لكني لاحظت تغييرا في سلوكيات وأدبيات كثير من المعتكفين من أول يوم في اعتكاف هذا العام ، فصار اهتمامهم كبيرا بإعداد طعام الإفطار والسحور الكثير والمتنوع والفاخر ، وكأن الاعتكاف تحول إلى ( اعتلاف ) ، وصار انشغالهم كبيرا بالكلام في السياسة وفي سيرة الناس ، وكأن الاعتكاف تحول إلى غيبة ونميمة وإسفاف . وصار الكثير منهم يستخدمون المحمول للاتصال والرغي بل والدخول على الفيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى على النت ، وكأن الاعتكاف ليس انقطاعا عما يجب أن ينقطع عنه المسلم في أشغال حياته العادية من أجل العبادة والذكر في المسجد . وما هكذا ولا لهذا شُرع الاعتكاف ، و رُب معكتف ليس له من اعتكافه إلا البقاء في المسجد . وليس اعتكافا أبدا بقاءُ جسدٍ في المسجد وذهابُ روحٍ إلى حيث تلهو و تعربد