نعم قد يصدمك هذا العنوان ، لكن أرجوك أعد قراءته مرة ثانية بتركيز على ضمير ( نا ) بحالنا الآن في رمضان !! وليس بالنظر إلى مطلق ما لصوم شهر رمضان من فضائل البر والرحمة والإحسان والهدوء والاطمئنان . يا إلهي ، ما هذه الجناية التي جنيناها نحن المعاصرون الآن في حق شهر ( رمضان ) بأن جعلناه ( شهر الإزعاج ) ؟ هل نحن حقا عاقلون مدركون لما أوصلنا إليه حالنا من الإزعاج في هذا الشهر الذي أوله رحمه وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار ؟ لقد تأملت حالنا في كل شهور العام سواء بالتقويم العربي الإسلامي أو بالتقويم المسيحي الأجنبي ، فلم أجد شهرا نحن فيه أكثر إزعاجا من شهر رمضان ، بل يمكن القول إننا جعلنا شهر رمضان هو شهر الإزعاج بامتياز ، بدل أن نجعله شهر الهدوء والرحمة والسكينة والاطمئنان بامتياز ، جعلناه بكل قصد واقعي أو عدم قصد تبريري شهر الإزعاج الجماعي ، شهر الإزعاج العام ، وكأننا جعلناه ( حساً مشتركاً ) اجتمعنا عليه ولا نريد أن نفارقه ، أو لا نريد منه أن يفارقنا ، وكأننا نريد أن نقول لبعضنا : ( رمضان إزعاج ) ، بدلا من أن نقول لبعضنا : رمضان كريم . والحقيقة أن الإزعاج في رمضان ظاهرة مصرية مكتملة الجوانب بامتياز ، وقلما تجد بلدا عربية أو أجنبية يكون فيه الإزعاج في رمضان بمثل ما هو موجود في مصر ، وإن كانت بعض الدول العربية قد تأثرت بما هو موجود عندنا فعلا ، فالعيب فينا أولا فنحن السبب
ولكي يتضح لنا ظهور وتطور هذا الإزعاج يمكننا القول إن هناك ثلاثة تصورات عن شهر رمضان ، التصور الأول : شهر رمضان الموصوف في السنة والمذكور في القرآن ، والتصور الثاني : شهر رمضان كيف كان زمان ، والتصور الثالث : شهر رمضان كيف صار أو بالأصح كيف صيرناه الآن . وفي التصور الأول نجد أن ما ورد في القرآن والسنة عن شهر رمضان من صفات الجمال والجلال والروعة والاطمئنان لا يستطيع أن ينكرها منصف عاقل مسلم أو غير مسلم ، ولو تعمد متعمد أن يذكر جميع فضائل صوم رمضان إلا فضيلة واحدة فلن يمكنه إغفال ذكر أنه شهر الاطمئنان والهدوء وراحة البال ولن يذكر أبدا أنه شهر الإزعاج . وأما في التصور الثاني كيف كان رمضان زمان فيكفي أن ترجع إلى أي مصدر أو مرجع عن حال المسلمين وهم صيام في شهر رمضان أيام النبي والصحابة لتجد كيف كانوا يرتاحون ويهنئون ويطمئنون بصوم رمضان ، ولن تجد مظهرا إزعاجيا واحدا كان في حياتهم في هذا الشهر الكريم . وأما عن التصور الثالث وهو كيف صيرنا رمضان شهر للإزعاج ، فهو الإزعاج الذي نعانيه الآن ، وصوره المختلفة ( والمتخلفة ) التي اقترفتها أيدينا ونفوسنا في هذا الزمان . وإن الفارق بين زمان النبي والصحابة في صيامهم شهر رمضان وبين صيامنا الآن هو في هذا المثل البلدي العامي ( المليانة ما تقرقعش ) ، فلما كانت حياة النبي والصحابة مليئة بالعبادة الحقيقية ، كان رمضانهم هدوءً واطمئناناً ، ولما فرغت حياتنا الحالية من حقيقة العبادة ، صار رمضاننا ضوضاءً وإزعاجاً
وقد لا يخالجني شك في أن نشأة الإزعاج في رمضان قد بدأت بمصر منذ أيام الخلافة الفاطمية ومظاهر ومستجدات التدين وبدع الحياة التي أدخلوها على المصريين وشغلوهم بها ، ثم تطورت حتى وصلت إلى ما نعانيه الآن . وقد يصعب علينا حصر صور إزعاجنا لأنفسنا في رمضان ، ولكن يمكن القول بالإجمال إنه لم يعد في رمضان جانبا في حياتنا المعيشية أو حتى العبادية إلا وأصبح فيه إزعاج مما جنته أيدينا وأنفسنا ، ولكني سأركز على بعض صور من هذا الإزعاج وخاصة بالليل حتى الصباح وفي غير أوقات العمل مثل : إزعاج الإرهاب الأسود ، وما في مثيله من سخافات فرقعات الأطفال وخناقات الكبار والشباب ، وإزعاج بعض الصنائع ( ورشة النجارة والسيارات – دباسة التنجيد – قطاعة الألوميتال وغيرها ) ، وإزعاج الفراغ وتسلية الأوقات وخاصة بالليل ( قهوة المدينة – مجعرة القرية ) ، ومجعرة القرية تلك كانت زمان ، فكم عانينا في القرى من تجمعات الشباب والكبار والتلفظ بسوء الأقوال بأصوات كأصوات الحمير ، وأيضا إزعاج العبادة ( ميكروفونات وأضواء المساجد ) . ولا نعرف لماذا يتراكم ويتأجل كل شيء في حياة المسلم ( المنزلية البيتية ) ليأتي إنجازه في رمضان ؟ إن النظافة والاهتمام يجب أن تكون في حياة المسلم طول العام
وإذا كانت المحصلة والغاية من صيام شهر رمضان هي إمكانية تحقق ( التقوى ) في نفس المسلم الصائم وفق قوله تعالى ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ، فأظن أننا الآن في حاجة أيضا إلى محصلة أخرى وغاية جديدة وهي ( كتب عليكم الصيام …. لعلكم تهدأون وتطمئنون ولا تُزعِجون ولا تُزعَجون ) . وإذا كانت التقوى المرجوة من صيام رمضان في أشهر تعريفاتها المنسوب للإمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه هي أنها ( الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل ) وهي أربعة أبعاد ، فإننا نحتاج إلى إضافة بعد خامس وهو عدم الإزعاج في شهر رمضان ، ولا شك أن التجليات الأربع للتقوى لا تتحق إلا في هدوء واطمئنان ، فالخوف من الجليل سبحانه لا يتحقق في ضوضاء وإزعاج ، ولم يدع القرآن ولا الحديث النبوي إلى إثارة إزعاج أو ضوضاء ، فضلا عن أن معرفتهما وإدراكهما بحق لا تتحقق إلا في هدوء واطمئنان ، والرضا بالقليل يجعل المسلم هادئا مطمئنا ، والاستعداد ليوم الرحيل لا يكون إلا في هدوء وراحة نفس وبال ، وهكذا فالتقوى لا تتحقق بيقين إلا في هدوء وراحة بال وعدم إزعاج
وإذا كنا نرجو من صيام شهر رمضان ( شفاعتة ) عند الله ، فإنني أخاف أن يشكونا شهر رمضان عند الله بالإزعاج الذي فعلناه بأنفسنا وغيرنا فيحرمنا الشفاعة التي نرجوها منه . وأقول له : أرجوك يا شهر رمضان ، يا أيها الشهر الجميل الهادئ المطمئن كما أرادك الله ، يا أيها الضيف الخفيف اللطيف ، وأنت ترحل الآن ، أرجوك أن تشهد عليّ أنني لم أسبب إزعاجا لأحد ، حتى عندما كنت أقرأ القرآن ، لم أسبب إزعاجا لأحد ، لا بالقصد ولا بدون قصد ، واشهد عليّ يا شهر رمضان أيضا أنني قد سامحت كل من سبب لي إزعاجا بقصد أو بغير قصد ، واشهد على من تسبب في إزعاج بما تشاء والله يعامله بما يشاء . وأخيرا ، وبعد أن لم يعد في الإمكان تدارك منع إزعاج حصل في رمضاننا ، فليس أفضل من أن ( نعقد النية ) من الآن أن لا نكون مزعجين في رمضان القادم إذا أدركناه إن شاء الله