ان اتمام المرحلة الاولى من مشروع قناة السويس الجديدة والذى مول بمدخرات الشعب المصرى وتحت اشراف كامل من الدولة والقوات المسلحة كاحد المشروعات القومية الكبرى الانتاجية والخدمية, لم يترك لاحد الفرصة ليشكك فى وجود الدولة فى الاقتصاد , وليبرهن ان اليوم فى العالم المتقدم اصبح تدخل الدولة فى الشئون الاقتصادية والاجتماعية امرا واضحا وإن اختلفت درجة تدخلها من نظام اقتصادى إلى آخر ، ولكن ذلك لا يغير من طبيعة وجود الدولة و بقوة فى أى اقتصاد حتى أكثر الدول رأسمالية.
والحقيقة أن هذا التدخل جاء نتيجة لتطور طبيعى للأنظمة الاقتصادية العالمية وبدأت معه معالم «دولة المذهب الحر المطلق» تتغير شيئا فشيئاً ، حيث بدأت سياساتها المالية و النقدية تفقد، تبعاً لذلك، حيادها التقليدى وذلك بزيادة حجم الكميات المالية و النقدية العاملة فى الاقتصاد, وبتغير أغراضها . فمن ناحية أخذت الكميات المالية و النقدية (أى السياسات المالية و النقدية)، بما فى ذلك النفقات والايرادات العامة فى الزيادة المستمرة حتى أصبحت ، وبالإضافة الى هذه الزيادة المطلقة ، تمثل نسبة مرتفعة من الدخل القومى وصلت فى أمريكا إلى حوالى 26 % وفى مصر حوالى 34 % العامين الماضيين. ومن ناحية أخرى لم تعد السياسة المالية وحدها اداة مستقلة تسعى فقط لمجرد جمع الايرادات لتغطية النفقات العامة، بل أصبحت ، أداة اقتصادية واجتماعية وسياسية غاية فى الأهمية تهدف إلى تغيير البنيان الاقتصادى والاجتماعى والسياسى بل وتشكلهم بما يتفق مع الفلسفة العامة للدولة (انظر الى السياسة الاقتصادية قبل وبعد ثورتى يناير 2011 و يونيو 2013) وما أدت إليه من تحول اقتصادى واجتماعى وسياسى يهدف لصالح مجتمع الملايين لا مجتمع أصحاب الملايين.
وحيث إن مصر قد تأخرت كثيراً فى اتخاذ تلك الإجراءات, فقد حدث هذا التحول دفعة واحدة على عكس دول العالم التى مرت بمراحل انتقالية تدرجية من السياسة المالية و النقدية التقليدية المحايدة الى السياسات المتداخلة، الأمر الذى أثقل كاهل الدولة والموازنة العامة والبنك المركزى بالكثير من الأعباء لتلحق بالتطور العالمى والمعاصرة و العدالة الاجتماعية فى وقت قليل. ويمكن القول إن هذا التحول عندنا جاء نتيجة لمقتضيات عملية تمثلت أساساً فى التطور الاجتماعى وفى تطوير البنيان الاقتصادى ، وفى مقتضيات الانشاء والتعمير والتنمية الاقتصادية وفى اتساع نطاق الحرب على الارهاب الداخلى والخارجى ، بل ونتيجة لتطور المبادئ الفلسفية لإدارة الرئيس السيسي، والتى يمكن أن نلخصها فيما يلى ؛ فعقب ثورة يونيو 2013 تمثلت مقتضيات تطور السياسة المالية و النقدية أساساً فى الحاجة الى تمويل الأغراض الاجتماعية المتلاحقة ومثلها إعادة توزيع الدخل القومى بصورة أكثر عدالة مما كانت عليه قبل يناير2011 ، وأيضاً لرفع معدلات الانتاج والاستهلاك القومي. وكان على الحكومات المتعاقبة منذ ذلك التاريخ أن تقوم بنفقات واسعة فى محاولة لرفع مستوى المعيشة ولضمان التوازن الاجتماعي. حيث بلغت هذه النفقات من الكبر درجة كان من العسير معها الاعتماد فقط على الضرائب ببنيانها التقليدى فى تمويل الميزانية ، ولذلك توسعت الدولة فى فرض الضرائب المباشرة وغير المباشرة ولجأت إلى اصدار سندات ( بالعملة المحلية و الاجنبية ) وشهادات استثمار و الاقتراض العام الداخلى والخارجى أيضاً. وقد كان هذا التوسع فى النفقات الاجتماعية يستهدف الطبقات الفقيرة وجاء ليصب فى نفقات التعليم والصحة والضمان الاجتماعى وإعانات تثبيت الأثمان وإعانات العجز والشيخوخة والبطالة وزيادة رواتب العاملين فى الدولة من خلال سياسة الحد الأدنى والحد الأعلى للأجور. الى جانب الرغبة فى زيادة الاستثمارات العامة (مثل مشروع محور قناة السويس الجديدة ومكملاته) وهى المشرعات التى لا يقدر اى قطاع خاص على القيام بها منفردا, وتتطلب ذراع الدولة لتنميتها جنبا الى جنب مع القطاع الخاص الوطنى.
وانتهى الأمر إلى أن أصبحت النفقات العامة اليوم فى مصر تمثل نسبة كبيرة من الميزانية والدخل القومي. أم من ناحية الأمن القومى والحرب على الإرهاب ، فقد تمثلت المقتضيات المالية فى الحاجة إلى تمويل الحرب على الارهاب ، وهو أمر يؤدى إلى زيادة حجم النفقات العامة والضرائب والقروض (مثلما حدث فى فترات حروب مصر السابقة من عام 1948 وحتى 1973) فالحروب بطبيعتها سبب أساسى فى ازدياد النفقات العامة ، حتى أصبحت نفقات الدفاع (بكل أشكالها) تمثل فى مصر نسبة كبيرة أيضاً من النفقات العامة ومن الدخل القومى وذلك إما بالاستعداد للدفاع وإما بالقيام به ، وإما بتصفية آثارها. وأخيراً وليس بأخير ، كانت فترة ما بعد يناير 2011 وحتى يونيو 2013 أبرز فترات تدنى الأداء الاقتصادى وظهرت مشكلات البطالة وانخفاض الدخل القومى بصورة لم تعرفها مصر من قبل حيث وصل معدل النمو أقل من 2% سنوياً.
وعليه لم يكن من المتصور ، أن تقف الدولة بعد 30 يونيو موقف الحياد ، وكان عليها أن تتدخل لإعادة التوازن الاقتصادى , وفى أسرع وقت , وتمثلت وسيلة ذلك فى السياسات المالية والنقدية التوسعية ومهدت للقائمين على الادارة الاقتصادية تدخل الدولة وبشدة لضمان توازن التشغيل الكامل. وهذا ما سوف نعرض له مقالاً لتوضيحه كاملاً.الا ان الامر بات واضحا ان للدولة المصرية ذراعا اقتصادية تمد الى كل محافظات مصر.