Breaking News

د. سمير عباس يكتب… “جنون الدولار.. الى أين..؟!!”

الجزء الثاني..

أزمة الدولار اذن ليست قضية عارضة او مؤقته. هى نتاج طبيعى لقصور قدرة الانتاج الوطنى كما ونوعا عن الوفاء باحتياجات المواطنين الامر الذى يفرض ضرورة الاستيراد من الخارج، هذا الاستيراد لا يمكن ان يتم الا باحدى العملات المقبولة في التعاملات الدولية وعلى رأسها الدولار الامريكى الذى يتم تقويم كافة عملات العالم في الاسواق الدولية بناء على قيمته. يمكن التأكيد هنا على حقيقة أن القصور في الانتاج كما ونوعا عن الوفاء باحتياجات الاستهلاك المحلى ،مترافقا مع الطموح التنموى المتمثل في خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، الاثنان معا ( مع بعض الالتزامات الاخرى المتعلقة بمتطلبات الامن القومى) ، كل هذا فرض على صانع القرار المصرى حقيقة انه لا يستطيع تحاشى الاستدانة من الاسواق الدولية والاقليمية سواء فى الاطار الثنائى او فى اطر متعددة الاطراف، كما هو الحال في الاقتراض من المؤسسات الدولية والاقليمية. 
هذا الاقتراض من العالم الخارجى لسد الفجوة التمويلية تصاعد على مدى العقود الاربعة الاخيرة منذ تولى الرئيس السادات مسئولية الحكم في مصر ولم يتوقف أو يتراجع أو يتناقص الا في لحظة استثنائية واحدة سنشير اليها لاحقا. وهنا يجب أن نشير الى أن مديونية مصر الخارجية عام 1970، عام وفاة الرئيس جمال عبد الناصر لم تزد عن 7ز1 مليار دولار اى اقل من 17% من الناتج المحلى الاجمالى وقتها. خلال سبع سنوات من حكم الرئيس السادات، أى بحلول عام 1977 كانت المديونية قد قفزت الى 13 مليار دولار أى ما نسبته 59% من الناتج المحلى الاجمالى. ومع الاستمرار في تطبيق سياسة الانفتاح الاستهلاكى التى كانت قد بدأت عام 1974 ، ومع توافر كميات ضخمة من السيولة المالية في الاسواق الدولية يرغب اصحابها في استثمارها ، تراخت أكثر شروط الاقراض من قبل المرابين الدوليين لاجتذاب النظم الفاشلة نحو مصيدة الديون، وبالطبع كانت مصر من اكثر مشاريع هؤلاء جاذبية، فتوالى الارتفاع في وتيرة الاستدانة لتصل في عام 1981 الى 30 مليار دولار أى نسبة 128% من الناتج المحلى الاجمالى، ومعها وصلت خدمة أعباء هذا الدين حدا صارت تلتهم معه نصف متحصلات مصر من العملات الاجنبية الشحيحة أصلا..كان الموقف الاقتصادى والمالى في تلك المرحلة غاية في السوء، وانتهت المرحلة باغتيال الرئيس السادات الذى عانت مصر معه أزمة خانقة بسبب الحصار الاقتصادى والتمويلى العربى لمصر بسبب اتفاقيات السلام مع اسرائيل. ومع بدايات الثمانينات تولى الرئيس مبارك الحكم وليس لديه أى فكرة أو تصور عن كيف يواجه مشكلات مصر التى توشك على الدفع نحو انفجار شامل. لم يكن امامه سوى الاستمرار في طريق الاقتراض الذى صار مكلفا الى ابعد الحدود بسبب تراجع التصنيف الائتمانى لمصر في الاسواق الدولية. ودون الدخول في تفاصيل ما جرى _ وهى التفاصيل الوارده في كتابنا المنشور عام 2012 – والسابق التنويه عنه، نشير الى أنه بحلول عام 1990 كان الدين الخارجى لمصر قد وصل الى سقف 50 مليار دولار، أى مانسبته 132% من الناتج المحلى الاجمالى، وبحيث كان الحبل بالفعل قد راح يلتف بقسوة حول رقبة الاقتصاد المصرى ومعه بالطبع صانع القرار . يكفى في هذا السياق الاشارة الى أن مصر ، وعلى غير عادتها كانت قد راحت تتأخر في سداد الاقساط والفوائد المستحقة على ديونها لتصل تلك المتأخرات عام 1990 مبلغ 6 مليار دولار، الامر الذى كان ينذر بكارثة جوع رهيبة حين لا تستطيع الدولة استيراد ما هو ضرورى من الطعام للافواه الجائعة.
في تلك السنه، حدث تطور مثير في المنطقة قلب الامور كلها رأسا على عقب. تمثل ذلك في اعتداء العراق على دولة الكويت واحتلالها بل وابتلاعها واعلانها محافظة عراقية، كان ذلك العدوان من قبل نظام الرئيس العراقى صدام حسين مدعاة لتدخل عالمى بقيادة الولايات المتحدة ومعها دول التحالف الغربى . وكان الموقف المصرى في تلك القضية حاسما بحكم أسباب كثيرة. ذلك الموقف لم يتردد في اعلان مساندته للشرعية التى يمثلها نظام الحكم وأسرة آل الصباح، وبالتالى عدم الاعتراف بكل ما اقترفه النظام العراقى وادانته والاعلان صراحة عن الاستعداد لخوض الحرب دفاعا عن الشرعية العربية المستقرة في الضمير الوطنى المصرى.
ذلك الموقف كان بداية للفرصة التاريخية التى أضاعها نظام حسنى مبارك والفاسدون الذين تحلقوا حوله يمتصون كل قطرة دم تدخل شرايين مصر. 
كان ثمرة ذلك الموقف المصرى هى ما تمثل فيما يلى :
اعفاء مصر من ديون عسكرية للولايات المتحدة مقدارها 7 مليار دولار
اعفاء مصر من ديون للدول العربية الخليجية مقدارها 2و4 مليار دولار
اعفاء مصر من اقساد قروض وفوائد متأخرة مقدارها 6 مليار دولار
اعفاء مصر من 50% من ديونها السيادية المدنية في اطار نادى باريس ، اى شطب 25 مليار دولار من دفتر المديونية المصرية على ثلاث مراحل ووفقا لنظام شرائح محددة.
يضاف الى كل هذا عدة مليارات من دول الخليج العربية تم ضخها كودائع في البنك المركزى المصرى.
بدأ الاقتصاد المصرى يلتقط أنفاسه ابتداء من عام 1992 وتراجعت مديونية مصر لتصل الى أقل من عشرين مليار دولار ، وبدأت أموال الاستثمار المباشر مع توقيع اتفاق التكييف الهيكلى مع البنك الدولى، وبدأت مصر تعيش مرحلة جديدة كان من المفترض أن تهيئها للانطلاق الحقيقى على طريق التنمية.
ولكن ما حدث هو أن الاموال التى تدفقت من الابواب هرب بها اللصوص من النوافذ، وبعد سنوات معدودة راحت المديونية تتصاعد من جديد لتصل عام 2010 ، آخر سنوات نظام مبارك، الى 35 مليار دولار، وبدلا من أن يتحول الاقتصاد المصرى الى اقتصاد انتاجى يطور هياكله وعلاقاته ويستفيد من الفرصة التاريخية السانحة، غاص هذا الاقتصاد عميقا في بحار الفساد والرشوة والقيم الاستهلاكية، وتحول أكثر الى الريعية والخدمىة بلا انتاج حقيقى الا فيما ندر. وكان للتطورات السلبية هذه انعكاسها على سوق الدولار مع تزايد اعداد السكان بالمتوالية الرهيبة التى ارتفعت بهم الى 90 مليون ، مع تزايد حدة التطلعات وانماط الاستهلاك. لندلف عامنا هذا وقد ارتفعت مديونية مصر الخارجية حسب أحدث تصريح لمحافظ البنك المركزى الى 48 مليار دولار، ولينخفض الاحتياطى النقدى الى 16 مليار دولار بما فيها بعض الودائع العربية ، ولتزداد وتيرة الاستهلاك ومعها فاتورة الواردات والخدمات لتصل الى 80 مليار دولار وفق ما صرح به رئيس البنك المركزى.
اذن ما هو الحل ، وكيف يمكن لمصر أن تعبر المرحلة الراهنة فيما يتعلق بسعر الدولار والعلاقة بين الصادرات والواردات.
هذا ما يناقشه الجزء الثالث من هذه الدراسة…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *